رولا حسن
الضفيرة.. هي تجربة الكتابة الأولى للكاتبة الفرنسية لتيسيا كولومباني ومع ذلك فقد حققت هذه الرواية انتشارا كبيرا فقد ترجمت إلى ثلاثين لغة ومن بينها الترجمة التي صدرت مؤخرا عن الهيئة السورية للكتاب بقلم سهيلة علي اسماعيل.
بداية في مقدمة الرواية تُهدي الكاتبة عملها «إلى النساء الشجاعات» والتي ستكون هذه العبارة عتبة لدخول نصها الروائي المزدحم معرفيا فنحن أمام ثلاث تجارب لثلاث نساء في أماكن مختلفة من العالم، الهند وصقلية وكاليفورنيا وحين يغوص الكاتب في الرواية أول ما سيتبادر لذهنه السؤال التالي: ما هو الرابط بين هذه التجارب الثلاث المختلفة أو ما الذي يضفر بينها. من هنا يأتي العنوان كعتبة نصة ودلالية مهمة لعبتها الكاتبة بذكاء لنكتشف أن الضفيرة هي من ربطت بين حكاياتهن ومقاومتهن لمصاعب الحياة والبحث عن حياة أفضل وهن ممتلئات بشغف مشترك وهائل للحرية.
سميتا الهنديَّة والتي تنتمي إلى جماعة الداليت المنبوذة التي لا تحترم المرأة، والذين سمّاهم غاندي أبناء الله، تعمل في تنظيف المراحيض، مهنة تشعرها بالانحطاط وعدم الاحترام، وقد حاولت التمرّد على وضعها من خلال ابنتها لاسيتا فدفعتها إلى التعليم لكن ابنتها الصغيرة وجدت الإهمال والذل والاقصاء من جديد.
جوليا ابنة احدى العائلات الإيطالية التي توارثت عبر أجيالها صناعة باروكات الشعر لكنّها وبعد تعرض والدها لحادث ووفاته تجد نفسها أما مشكلات كثيرة وديون عليها سدادها وإلا ستخسر العائلة البيت والمصنع الذي توارثوه أبا عن جد.
سارة كوهن «الكنديَّة من أصل يهودي محامية استطاعت بالجد والعمل المتواصل أن تكون إحدى المساهمين في شركة محاماة كبيرة لكنها في خضم ذلك نسيت أنوثتها وأولادها من أجل مؤسسة أدارت لها ظهرها بمجرد علمها بإصابتها بالسرطان.... تحاول الكاتبة أن تضفر هذه المصائر الثلاث في ضفيرة واحدة فالمرأة الهنديَّة سميتا في رحلتها للبحث عن مستقبل أفضل لابنتها بعيدا عن الإقصاء والإذلال تستطيع أن تأخذ فيه حقها بالتعليم لتضحي بضفيرتها وضفيرة ابنتها في المعبد أملا بحياة أفضل. هذه الضفيرة وفي مكان آخر ستستفيد منه الإيطالية سارة في رحلتها لاستيراد الشعر الهندي لمعملها والذي سيتحول إلى باروكة ستشتريها الكندية سارة لتضعها بدل شعرها الذي تساقط وأفقدها أنوثتها.
انطلاقاً من مبدأ أن الضفيرة تتشكل بخصلات ثلاث اختارت الكاتبة ثلاث نساء وثلاث تجارب وثلاثة مصائر عبر رمز من رموز أنوثة المرأة التي لا تضحي به ببساطة، فحكاية كل منهن تفضي إلى الأخرى من دون علم أيٍّ منهن بذلك تماما كما الحياة.
لتشير اشارات مهمة إلى واقع المرأة على اختلاف مجتمعها، إذ تؤكد أن واقع المرأة يفرضه عليها راهن مجتمعها وأنها تستطيع في أي لحظة أن تغيره إن هي أرادت ذلك، فهناك أشياء لا نختارها لكن من المؤكد أن قرار اختيار الطريق يعود لنا فلا يوجد استسلام تام إلا في قضية الموت.
فسارة تكتشف بعد إصابتها بالسرطان أنها ليست هي المريضة وإنما المجتمع الذي تعيش فيه بكاملة هو المريض الحقيقي، ويجب معالجته «أنه مجتمع يدير ظهره للضعفاء الذين يجب عليه أن يحميهم ويرافقهم كما يفعل قطيع الفيلة حين يترك الفيلة الطاعنة في السن وراءه ويحكم عليها أن تموت وحيدة «ص 167
وفي لقاء للكاتبة مع برنامج المكتبة الكبيرة الفرنسي اعتبرت كولومباني أنها في هذه الرواية «تقدم وجها من وجوه الحياة مسكوتا عنه ويجهله الكثيرون. وقائع مأساوية في حياة نساء مجهولات، أيا كان انتماءاتهن أو بلدانهن، حيث هناك جيوب خفية توضع الأحزان في داخلها إلى أن تنتفخ وتصعب مداراتها».
من الواضح أن الكاتبة في شخصية لاميتا قدمت كمّاً هائلاً من المعرفة حول طبقة الدالاليت وتقسيم المجتمع إلى طبقات المنبوذ منها الداليت التي تدفع المرأة فيه ثمنا غاليا فهي الأكثر اضطهادا والأكثر تعرضا للظلم والانتقام تعامل كأنها شيء لا قيمة له بموت الرجل تدفع أحيانا وراءه إلى المحرقة وإن رفضت تتعرض للنبذ والمعاملة القاسية التي لا تلائم اي كائن بشري. استخدمت الكاتبة صوت الراوي العليم فكانت تحرك الشخصيات كيفما تريد وتقود مصائرهن بطريقة كانت تحتاج في أماكن كثيرة إلى المزيد من التبئير على شخصياتهن.
أما قدرتها على نقل المشهد الخارجي بما يتضمنه من حوارات ومنولوج داخلي، وتكثيف الحدث، وسرعة الانتقال بين الأحداث وخلق بؤر للتشويق بعيدة عن الابتذال تشد القارئ وتشاركه في عملية الربط بين ما يجري على الورق. فتعكس أثر كتابة السيناريو التي تمتهنه فقد كتبت قبل اصدارها رواية الضفيرة سيناريو لفيلمين هما «نحو الجنون، لا أبدا» و «نجومي وأنا». الضفيرة «رواية نسويَّة بامتياز تسلّط الضوء على عوالم نسائية غير مألوفة لدى القارئ ولا سيما العربي، لكن هذه العوالم استطاعت الكاتبة ملامستها وملامسة رقة المرأة في التعامل مع قسوة العالم؛ لذا يمكننا أن نعتبر أن الرواية كانت نصّاً إبداعيّاً نسويّاً بامتياز.