ريسان الخزعلي
( 1 )
الشاعر/ الروائي فاضل العزاوي، وقبل مغادرته العراق، صدرت لهُ الأعمال: مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة، القلعة الخامسة، سلاماً أيتها الموجة سلاماً أيها البحر، الشجرة الشرقية، الأسفار. ولكلٍّ من هذه الأعمال مناخٌ إبداعي، تعلو فيه ابتكارات العزاوي الفنيّة والجماليّة ضمن تجنيسين: الشعر والسرد. والعزاوي شاعراً، كشفَ عن وعيهِ الشعري مبكّراً من خلال البيان الشعري عام 1969، برؤى ومفاهيم تقترب وتتشابه مع طروحات البيانات السرياليّة لـ (بريتون). ورغمَ أهمية البيان تاريخياً وفنياً، إلّا أنَّ تلك الرؤى والمفاهيم لم تجد لها تأصيلاً شعرياً ملموساً سواء في شعره أو شعر مَن وقّع البيان معه. وهكذا بقي البيان في حدّهِ التنظيري خارج منطقة الشعر والشعرية. ولا تتسع مثل هذه الوقفة للتطبيق، لأنها ذاهبة بالأساس إلى استعادة كتابه (الأسفار – الذي طُبعَ بمساعدة اتحاد الأدباء في العراق عام 1976) والذي حمل العنوان التجنيسي – قصائد، ولمثل هذا التجنيس دلالتهُ القصدية التي أراد منها، أن يكون فضاؤه الشعري متخطّياً للشكل ومحدداته الفنية.
( 2 )
ضمَّ الكتاب خمس قصائد طويلة مكتوبة بين عامي 70 – 1974: نزهة المحارب، أنا الصرخة أيّة حنجرة تعزفني، تعاليم ف العزاوي إلى العالم، الصحراء، عويل العنقاء.
والقصائد تعكس خصوصية الشاعر ولونه المتفرد في مشهد الشعرية العراقية الحديثة من حيث: البناء، التركيب اللغوي، التشكيل الصّوري، البُعد الدرامي، الإيحاء الرمزي، النثري الذي يتباوب مع الشعري، الاسترسال السردي، وضوح معنى الجملة الشعرية، ظاهراً ومضمراً، وغيرها من الممكنات الفنية التي ارتبطت بشعر وشعرية العزاوي.
( 3 )
من مراجعة (الأسفار) يمكن استخلاص التوصيفات الآتية:
1 – العزاوي، على الأعم ينصت للشعر ويقتطفهُ بإيقاع موسيقي يكاد أن يكون واحداً، أَلا وهو إيقاع (المتدارك) بتحولاته وتداخلاته مع (المتقارب والخبب) ..، مع تنويعات محدودة لموسيقى بحور أخرى تظهر هنا وهناك.
2 – القصائد طويلة، وفيها استغراق غيرُ مملٍّ وأقرب ما يكون إلى مناخات السرد، مما يجعلها قابلة لأن تحتمل الإطالة والإضافة، كونها ترصد موضوعاتها بمشهدية بانورامية واسعة.
3 - لم تأخذ القصائد شكلاً نصيّاً محدداً، ولا تعتمد بناءً واحداً وإنما تعددت الأشكال والتنويعات فيها: الشعر الحديث بتوصيف قصيدة تفعيلة، الشعر بتوصيف قصيدة نثر، المشهدية المسرحية كما في قصيدة (عويل العنقاء)..، تثبيت نصوص تاريخيّة، اعتماد مقاطع من الشعر بشكله الأوّل، الأفقي/ العمودي..، لصق صورة الشاعر كجزء من النص/ القصيدة، المقاطع النثرية، بيان على شكل لافتة مؤطرة بمربع أو بحرف كبير، وغيرها.
4 – القصائد عالية الغنائية - إذ إنَّ تجارب الشاعر السياسية والحياتية الأخرى، بما في ذلك السجون وحفر النفق والمدرسة والمقهى والشارع والمدينة بصورة عامة – وتعلو بصوته المُدوّي/ ماذا أفعلُ يا جيلي؟.
5 – وضوح الاِلتفات إلى تقنية الروي في انتاج النصوص/ القصائد، وهذا متأتٍ من قدرات الوجه الآخر للشاعر بوصفه روائياً.
( 4 )
ما تقدم، يحتاج الكثير من الاستشهادات الطويلة التي قد لا تتناسب مع مساحة هذه الإشارات الراكضة التي تُناسب المقالة الصحافيَّة، وسأكتفي بهذا النموذج النثري المتبوع باللافتة والشعري:
وفي هذا العصر، إذ تصبح الذكريات فيما بعد تاريخاً يُقرأ في المدارس الابتدائية (ربما في الصف السادس بالذات).
سرقتُ للتسلية ذات مرّة شرطياً من عام 1967 غسلته بالصابون والديتول شهراً كاملاً. ثم زرعتهُ في حديقة الوطن، غير أنّهُ ظلَّ شجرةً ميتة إلى الأبد. وفي الصباحات إذ أمرُّ به كنتُ أقول: متى تزهر ياعزيزي الشرطي؟
- ليس الآن على الأقل، ليس الآن. وعندما مات بكيت كثيراً، فقد كان أوسع من وطني.
«لافتة مرفوعة فوقَ رمالِ الجزيرة العربية يقرؤها أعراب فقراء»
ممنوعٌ أن أكتبَ أسمائي
أن أرثي جيلي
أن أسرقَ شيطاناً من مملكة الله
ممنوعٌ أن أحلمَ أنّي أحلم
أن أجلس كالأعمى وأجوب العالم في سيارة إسعاف
وأفكّرُ أني: رجلٌ يُشنق في ساحة بيته
وأفكّرُ أني: رجلٌ دون مزايا، رجلُ في مملكة المجهولين
يصرخُ (هذا صوتي) فيجف على شفتيه الصوت
ويموتُ الموت. (أنظر. أكتب. أشهد).
( 5 )
وفي خُلاصةٍ أخرى لما تقدّم، هل أراد الشاعر أن يتخطّى الشكل الثابت في الشعر؟ إن الإجابة أفصحَ عنها كتاب (الأسفار) ليكونَ كتابَ الشعر والنثر وقصيدة النثر، في توصيف واحد: قصائد..