فن الكاريكاتير.. هل غُيبت المرأة أم توارت خشية مخاطره؟

منصة 2023/08/16
...

 رجاء الشجيري


الكاريكاتير فن لا يشبه بقية الفنون، لما فيه من إبداع قد يكلف صاحبه متاعب شتى، فهل لهذا السبب توارت عنه الفنانات التشكيليات بتجربتنا العراقية، أم ثمة أسباب أخرى ظلت قيد الكتمان؟ ولم كان رواده من الرجال؟ وان كانت هذه الظاهرة عالمية وعربية إلا أننا نفتح باب التساؤل والبحث عنها محلياً، لم لم تبرز رسامات كاريكاتير كن بصفاف الرواد سوى الراحلة شيرين الراوي؟ هذه الأسئلة تطرح على عدد من رسامي الكاريكاتير، وعلى من عاش وعرف شيرين الراوي مع حوار مع رسامات شابات كن جديرات بالظهور والاستمرار من دون التوقف أو الانسحاب كما فعلن 

كثيرات..

الكاريكاتير بين اللغة وصحفه الأولى في العراق

اشتقت كاريكاتير  من اللاتينية "كاريكاه" الصورة المبالغ في معالمها. وكاريكاتير Caricatureمشتقة من الإيطالية «كاريكير caricare» أي يبالغ بحمل ما لا يطيق... لكنها المبالغة الناقدة اللاذعة...

وقد ظهرت العديد من الصحف الساخرة في العراق، سأذكرها بالتسلسل الزمني في الظهور التي ابتدأت من (مرقعة الهندي) وهي أول صحيفة ساخرة لصاحبها أحمد حمدي أفندي التي صدرت في البصرة 21 تشرين الثاني عام 1909، وبعدها (بالك) التي صدرت 13 اذار 1911 لصاحبها ابي العيناء شكري افندي، و( خان الذهب) 23 آذار 1911 لمحمد سعيد افندي، وتتالت  (البلبل)،(الأسرار)،(جنة باز)، (دومبلا)، (المضحكات)،( القسطاط)، (بابل)، (البدائع)، (المراقب)، (جحا الرومي)، (الحقائق)،(الهزل) للسيد علاء الدين عوني، (كناس الشارع) للسيد ميخاىيل تيسي، (بالك)،(سينما الحياة)،(الكرخ) التي صدرت 10 كانون الثاني 1927 للشاعر الملا عبود الكرخي، (صدى الحقائق)، (الناقد)،(الرصافة)، و(حبزبوز)، التي صدرت 29 ايلول عام 1931 للكاتب الساخر نوري ثابت، الذي عدَّ من رواد الصحافة الساخرة والذي كان يكتب بأسماء مستعارة عدة منها (بياع شراي)، و(خجه خان)، و(غشيم)، و(جدوع بن دوخه)، وآخرها لقبه (حَبُز بُوز) الذي اشتهر به، ثم (البهلول)، (الممثل)، (ابو احمد)، (قرندل)، (المتفرج)، (الفكاهة) و(المجرشة).

ولا ننسى في ذاكرتنا مجلة عزيزي عزوز وزاوية كاريكاتير كل أربعاء، التي كانت ينتظرها القراء بفارغ الصبر.. لكن عبر هذه المسيرة من الصحف والرسامين، الذين تركوا بصمتهم نتساءل، ما الذي جعلنا نفتقد إلى وجود اسماء رسامات كاريكاتير؟ ليأكد لنا رسام الكاريكاتير خضير الحميري بقوله:  لم تخل ساحة الفن الكاريكاتيري العراقي من الرسامات كليا، إلا أن المساهمة كانت شحيحة بالتأكيد، ربما لأن الكاريكاتير من الفنون (الخشنة)، التي تتطلب الانتقاد والمجاهرة بالرأي المعارض والاشتباك الافتراضي أحيانا، وهو ما لا تحبذه المرأة كثيرا، وقد كان لفنانتنا الراحلة شيرين الراوي السبق في دخول هذا العالم، من دون أن تخوض في مساراته الوعرة، حيث بقيت رسوماتها تتناول بعض المفارقات التي تخص المرأة والعمل وما يتصل بهما، وقد رافقتها محاولات أخرى لم تستمر طويلا للفنانتين هناء مال الله وانطلاق محمد علي..

وحالياً يوجد عدد من الفنانات الشابات يمارسن رسم الكاريكاتير وينشرن أعمالهن في هذا الموقع أو ذاك، أذكر منهن الفنانة هالة أو هيلة زياد، وهي أكثرهن نشاطا، والفنانة رسل الربيعي، إضافة للفنانة آلاء الشمري.. وأخريات.

أما على الصعيد العربي فقد عرفت الفنانة الفلسطينية أمية جحا، والفنانة المصرية المعروفة عربيا وعالميا بإمكاناتها الإبداعية وأفكارها المؤثرة دعاء العدل..


المفتي والراوي

تحدثت الصحفية نرمين المفتي عند سؤالنا لها عن رأيها بندرة وجود رسامات كاريكاتير، وعن شيرين الراوي ومعرفتها الشخصية لها اذ قالت:

لو قارنا عدد رسامي الكاريكاتير بالرسامين التشكيليين، سنجد أن عددهم محدود جدا، اذن رسامة كاريكاتير واحدة بين هذا العدد المحدود من الرسامين نسبة جيدة مقارنة بنسبة الرسامات التشكيليات إلى 

التشكيليين. 

الكاريكاتير عموماً فن جريء جدا في حقول ومفاصل الحياة والمجتمع كافة، وليست السياسة فقط وهو الفن الوحيد الذي  يستطيع أن يصل إلى المتلقي بصمت أي بدون تعليقات وفي هذا المجال فهو أفضل من البانتونايم، وقد أشارت المفتي إلى أهمية هذا الفن عندما يكون إدانة ذات بصمة، كما المعرض المشترك للكاريكاتير، الذي اقامه شقيقها برهان المفتي والراحل أحمد الربيعي في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد من منتصف تموز حتى الثلاثين منه في 2002.

وتضيف: كل مهنة أو عمل مع الناس في مواجهة السلطة، أية سلطة كانت مجتمعية، ذكورية، سياسية، عشائرية وغيرها تحتاج إلى جرأة، وهناك نساء نجحن بامتياز في العديد من هذه المهن.. أعتقد لأن الكاريكاتير فن يجمع فنونا عديدة ويحتاج إلى مهارات عديدة، فرسام الكاريكاتير إن كان صاحب قضية وليس رساماً لإضحاك المتلقي فقط، فانه بحاجة إلى الاتصال بالشارع، وان يكون قريبا منه على مدار اليوم، والشارع عامة أصبح خطيراً بسبب انقلاب ميزان القيم، هذا الشارع الذي بات يخيف الرجال أيضاً، ولكن في مجتمع ذكوري، يتميز الرجل صاحب القضية بقوة عين أكثر. 

انظري إلى رسامي الكاريكاتير وتستطيعين التمييز بين القارئ وغيره من خلال تعليقاتهم على رسوماتهم.. وايضا المرأة مهما كانت مبدعة، في النهاية لديها بيت وعليها انجاز مهامها البيتية، مما يعيقها  دخول بعض المجالات التي تتطلب كما قلت القرب الدائم من الشارع فهو مرآة المجتمع.

اما في الحديث عن شيرين الراوي فبدأت بوصفها:  لا يمكن ان يختصر ذكرها بجمل معدودة،  كانت معمارية مميزة، وكان طلبتها في القسم المعماري في الجامعة التكنولوجية يحبون محاضراتها جدا، خاصة أن الابتسامة كانت لا تغادر وجهها حتى إن كانت تمر بظروف غير اعتيادية.. كونها معمارية ماهرة ورسامة تشكيلية أيضا. فقد كانت خطوطها واضحة جدا، رشيقة وان كانت حادة أحيانا، أفكارها حلوة، وغالبية رسوماتها كانت عن الوضعين الاجتماعي والاقتصادي، وهي تعرف جيدا كيف تنتقد الظروف الاجتماعية التي ترهق المرأة عامة والأم خاصة، وكانت الألوان التي تستخدمها في رسوماتها تزيد من تأثير رسوماتها.. شيرين كانت فلتة لأسباب عدة، كانت مقفلة جدا وقارئة متميزة مما ساعدها في كتابة تعليقاتها بلغة تصل إلى الجميع مهما كان مستواهم الدراسي، شاركت في معارض عدة في الداخل والخارج، وقطعا كانت أحلى المعارض تلك التي اقامتها مجلة الف باء، وجمعتها بزملائها من رسامي المجلة، وكانت لها زاوية أسبوعية في ألف باء.. 

استمرت ترسم وإن أصبحت قليلة النشر وأرغمتها ظروف الحصار إلى هجرة أولى إلى الأردن وثانية بعد الاحتلال إلى الامارات، حيث عملت بشركة كبيرة للتصميم الداخلي، واستمرت عودتها إلى العراق غصة في قلبها.. حين تمت الموافقة على هجرتها الى كندا، كانت سعيدة جدا، وقالت إنها عادت إلى الرسم التشكيلي والكاريكاتير معا، لكن سعادتها لم تدم، فبعد وصولها في اقل من ثلاثة شهور تم تشخيص اصابتها بالسرطان لترحل في ايار 2014، وكانت قد وصلت كندا مع نهايات اب 2012..

ندرة فناني الكاريكاتير

رسام الكاريكاتير علي المندلاوي تأكيده جاء ضمن ندرة وجود رسامين سواء من الرجال أو النساء، اذ يقول: من بين دفعة كاملة  من المتقدمين لدراسة الفنون التشكيلية (72 - 1973) في معهد الفنون الجميلة، كنت الطالب الوحيد الذي كان له ولعه بالكاريكاتير، وخلال ست سنوات من بقائي في المعهد لم أشهد ولادة رسام كاريكاتير واحد من الخريجين في المعهد ذكراً كان أم أنثى!

ماذا يعني هذا، وماذا يعني أن  اسماء عدة لا تتعدى أصابع اليدين بقيت منذ ستينيات القرن الماضي تتسيد ساحة الفن الكاريكاتيري في العراق، واستطاعت أن تتقدم وتشتهر عربيا وعالميا عبر صحف ومهرجانات، وتحرز جوائز متقدمة في مسابقات دولية!

ويضيف المندلاوي: شيرين الراوي الفنانة الوحيدة التي اتقنت (اللعبة)، وكانت الأولى عراقيا وعربيا كرسامة كاريكاتير تقف بفنها إلى جوار زملائها بسام وخضير ومؤيد ورائد وعبد الرحيم، وغيرهم القليل!  وإلى اليوم لم تبرز رسامة كاريكاتير عراقية أخرى، برغم ولادة العديد من المواهب الواعدة من الذكور، وعربيا لم تشهد ساحة الكاريكاتير ظهورا  مهما لعناصر نسائية، غير اثنتين أو ثلاث، كأمية جحا  ودعاء العدل،  التي استطاعت ان تتبوأ مركزا متقدما بين رسامي الكاريكاتير في العالم العربي، وتفرض وجودها بنتاج إبداعي مبهر.

هذا يعني أن فن الكاريكاتير تكوين معرفي، ونفسي، واسلوبي خاص جدا في الرسم لا علاقة له بالدراسة الاكاديمية للفن، بدليل أن فنانين عراقيين على اعلى درجة من الابداع والانجاز الخلاق، كبسام فرج وخضير الحميري وبربن، وميثم راضي، وربما گرفتار كاكه يي، لم يمروا على معهد فني او اكاديمية!

بالنتيجة فإ عدد من يزاول فن الكاريكاتير عالميا، وبشكل اخص الاكثر بروزا وشهرة عالميا لا يشكل ربما واحدا بالمئة من مجموع الرسامين في العالم، سواء من الرجال او النساء! نحن ازاء فن بمزاج وتكوين خاص جدا يستلزم توفر ثقافة عامة متقدمة روح نكتة وسخرية عالية ورؤية واسلوب رسم، قد يكون مبسطا جدا او مع تفاصيل وقد يكون بالألوان او مجرد خطوط سود بسيطة تكفي لإيصال الفكرة.

كل هذا يجعلنا بالتالي نتوقع ندرة فناني الكاريكاتير بشكل عام وتكون الغلبة للعنصر الرجالي الغالب عموما على اغلب منتجي الفن البصري عالميا، فأبرز فناني العالم المعروفين هم من الرجال ايضا، وهو امر محير ومؤسف حقا!


المتلقي والرسام

عن الجمهور سابقاً والآن، وعن أسباب غياب الرسامات لفن الكاريكاتير تحدث لنا رسام الكاريكاتير عامر آل جازع اذ يقول: سابقاً كان جمهور فن الكاريكاتير ليس بتماسٍ مباشرٍ مع المتلقي وردود الأفعال.. انما عن طريق المجلات والصحف، فكان في مجلة عزيزي عزوز على سبيل المثال يجاوب على الأسئلة عزوز بعد أسبوع كامل. الآن وسائل التواصل الاجتماعي مباشرة يأتيك الرد فوريا من المتلقي.  وبما إن منظومة الأخلاق والتعامل تغيرت وأصبحت أكثر حدية في التعبير، صار الناس بإمكانهم الهجوم والتنكيل والإساءة والتهديد والوعيد للرسام...وهذا صعب على النساء الرسامات التعامل معه وتقبله، الرسامون الرجال أكثر تقبلاً ومواجهة له، لهذه الأسباب نرى ظهور عدد قليل جدا من رسامات الكاريكاتير ينشرن. 

ويضيف جازع: كان هناك تجمع اسمه (كاريكاتير بالعراقي) اكتشفنا وجود الكثير من الرسامات كن فيه وقد كنا نقدم في هذا التجمع حملات رسومات عن مواضيع مختلفة توعوية وتربوية ومجتمعية وسياسية، ورسام الكاريكاتير بالنهاية لديه رسالة يجب ايصالها  ليصنع منها رأيا عاما  من شأنه أنه يوصل الفكرة، ليس عبر رسوم وخطوط مختزلة، انما من خلال رسائل مجتمعية، يمكن أن تغير قوانين أو ظواهر من خلال التشخيص الكاريكاتيري 

الناقد.


رسامات كاريكاتير

كنت قبل عامين قد اجريت حواراً لمجلة الشبكة مع رسامة شابة في السادس الاعدادي هي زينب العاني، وهي تشكيلية خطت لها بصمة عبر التكعيبية،لكن الملفت وقتها في لوحاتها وجود رسومات كاريكاتيرية، فعند سؤالي لم لم تستمر وتختط الفن الكاريكاتيري، كان جوابها إنها لا تحب المواجهة ولها عزلتها التي تحبذها، لذلك فقد ابتعدت عن الفن الكاريكاتيري، واستمرت ضمن أسلوبها الخاص في الرسم . 

لكننا هنا تحدثنا مع رسامتين متميزتين في فن الكاريكاتير وبقوة، من دون توقف أو خشية من مواجهة، فكان حديث الرسامة هالة زياد عن تجربتها:

 فن الكاريكاتير هو الصفعة بوجه السلبية، والتصفيق للجمال والايجابية، هو خطوط بسيطة بفكرة عميقة، وهو الفن القادر أن يوصل أفكارا عديدة لجميع الفئات بأسلوب لا تقدر الكلمات على ايصاله .  مجال الكاريكاتير هو  كأي مجال آخر تغلب عليه سيطرة العنصر الرجالي لما يحتويه من ضغوطات وخرق للقيود المفروضة، من قبل العادات والمجتمع الشرقي عامة والعراقي خاصة، يتطلب مهارة وجرأة وحرية تعبير، نجدها مقيدة نوعا ما في مجتمعنا، لذا الخوض فيه والاستمرار يحتاج إلى قدرة على التحمل والمواجهة.

دخلت إليه بمحض الصدفة وبتشجيع من فنان الكاريكاتير ناصر ابراهيم، أحببت فن الكاريكاتير كونه يعبر عن شخصيتي، فن خفيف يتمتع بحس الفكاهة والسخرية، حتى في الأحوال والمواقف الصعبة، كتجربة نسائية هي تجربة صعبة كوننا نتعرض للكثير من الهجوم وعدم التقبل، خاصة في البداية كلما حاولنا أنا وزميلاتي طرح مشكلة مجتمعية، فأننا كنا دوما نُهاجم ونعتبر متمردات على العادات والتقاليد لأننا نعيش في مجتمع يلجأ إلى إنكار المشكلة، بدلاً من مواجهتها. وعندما قررت أن أنشر أعمالي كانت حينها صورا بسيطة بإمكانيات محدودة جدا، لكن في ما بعد وتطور المواد المستخدمة ثم الانتقال إلى الرسم الديجتال، وطرح مواضيع مهمة، بدأ الناس بالانجذاب نحو هذه الأعمال، الرسوم الكاريكاتورية، التي تكون مخصصة لحدث معين وقع، كأن يكون تضامناً مع شخص أو حالة أو موقف، يكون الناس  متابعين لتطوراته، وتأتي الرسمة مواكبة لما يحدث حينها يحدث الاعجاب من المتابعين، ويتم تداولها 

بكثرة .

وتضيف زياد فن الكاريكاتير هو سمائي، التي أحلق فيها بحرية، إن شاء الله ثابتة ومستمرة بتوثيق المواضيع، التي مرت على بلادي، ليذكرني التاريخ في ما بعد كواحدة من رسامات الكاريكاتير العراقيات.

والكاريكاتير فن لا يستهان به وبصعوبته، وهو يحتاج قدرا كافيا من الذكاء لإخراج لوحة صغيرة ناطقة.   والمرأة في المجتمع الشرقي مستضعفة لا تملك حتى حق التعبير عن رأيها، فما بالك برسم كاريكاتيري ينتقد مجتمعا كاملا او جزءا منه او بعض الشخصيات الفاسدة. 

بالتأكيد، الكاريكاتير صار جزءا من هويتي وأنوي المضي قدما بجانب كبار رسامي الكاريكاتير، آملا أن أصبح يوما (شيرين الراوي) الثانية.