جذور الحرب على الذات
البصره: صفاء ذياب
لم تعد الفوضى، بحسب النظريات العلميَّة، مجرّد نظام أو مؤسسة أو دولة، بل إنَّ هناك من أعاد ترسيمها بطرائق مختلفة، حتى أعيدت تسمية الكثير من هذا الخلل باسم الفوضى الخلّاقة، أو الفوضى البنّاءة، وهي حالة سياسيَّة أو إنسانيَّة يتوقّع أنْ تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمّدة الإحداث. ويعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأنَّ خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار سوف يؤدّي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار والحريَّة. غير أنَّه عادةً ما تكون لها أهداف أخرى تصبّ في مصلحة من يقوم على إحداثها.
وتبيّن الباحثة حنان غنيمي أنَّ الفوضى الخلّاقة وهي تصف الحالة التي تسيطر على نظام معين في مجال محدّد لتصل إلى قرارات إيجابيَّة ونتائج إبداعيَّة وهذا يوضح رأى وتفسير أنصار نظريَّة الفوضى، إذ تستطيع من خلال الابتكار والإبداع مع العشوائيَّة الوصول لحلول وبدائل جديدة. وذلك عكس النظام المحدّد الذي يصعُب فيه الوصول لحلول ونتائج بديلة، وتتضح نتائج تطبيق هذا النظام بشكل مختلف بحسب المجال الذي تُطبق عليه، فمن الناحية السياسيَّة يمكن أنْ تعرف الفوضى الخلّاقة على أنّها مجموعة من القرارات التي تساعد على بناء حالة سياسيَّة إيجابيَّة بعد مرحلة الفوضى.
ما الفوضى؟
ولنفهم المصطلح بشكله الواضح، نعود لمفردة الفوضى في معاجم المصطلحات، فهي اختلال في أداء الوظائف والمهام الموكلة إلى أصحابها وافتقارها إلى النظام، تُعاني المؤسسة من الفوضى. وهناك من يفسِّر مقولة: أَمْرُهُمْ فَوْضىً بَيْنَهُمْ: كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَصَرَّفُ فِي مَا لِلآخَرِ دُونَ تَمْيِيزٍ، فضلاً عن أنَّ كلمة فوضى في اللغة تعني بَلْبَلَةً أَخَلَّ بِهَا النِّظَامَ.
في حين أنَّ (الفوضى) بالإنكليزيَّة: فقدان للنظام والترابط بين أجزاء مجموعة أو جملة أجسام سواء كانت جملة فيزيائيَّة أو مجتمعاً إنسانياً أو اضطرابات قبيليَّة أو سياسيَّة مثل فقدان الأمن في منطقة معينة. وتستخدم في اللغات اللاتينيَّة لوصف حالة الفوضى والاضطرابات غير المتحكم بها، وكلمة Chaos التي تترجم مؤخّراً بكلمة شواش تصف في الميثولوجيا الإغريقيَّة الحالة البدئيَّة للعالم قبل أنْ يقوم المبدأ الأول (الإله كاوس) بترتيبه. غير أنَّ كلمة شواش بدأت تكتسب معنًى جديداً في سياق نظريَّة حديثة نسبياً تُدعى نظريَّة الشواش التي تدرس الجمل الفيزيائيَّة الديناميكيَّة غير الخطّيَّة ممَّا يفتح الباب لسلوكات غير نظاميَّة تحمل كثيراً من اللايقين.
تاريخيَّة الفوضى
الفوضى التي عاشها العراقيون جعلتهم يُدركون أنَّهم يعيشون حالة خاصة، لكن قبل الخوض في حالتنا الخاصّة، سنخوض مع الباحث التونسي زهير الخويلدي تاريخيتها، فيقول إنّها كانت قوّة احتجاج وتمرّد أكثر منها عامل بناء اجتماعي. ومع ذلك، إذا كانت الفوضى تبدو دائماً نموذجاً طوباوياً لتنظيم المجتمع، فمن الجدير الإشارة إلى المحاولات القليلة لتحقيق هذا النموذج بشكل فعّال، وفقاً لأشكال متغيّرة للغاية. منذ نهاية القرن التاسع عشر، تمَّ إجراء العديد من التجارب المعزولة حاولت (غالباً في شكل إنشاء “بلديات حرة”)، لكنَّ أشهرها كانت بالطبع تلك التي حدثت في أثناء الثورة الإسبانيَّة (1936- 1938)، لاسيَّما في منطقتي كاتالونيا وإسبانيا. في الصراع الإسباني، لا نجد فقط المعارضة بين النقابيَّة اللاسلطويَّة والماركسيَّة (البلشفيَّة) التي أصبحت أكثر راديكاليَّة على مدى الأشهر، ولكن أيضاً السؤال الكلاسيكي للمشاركة في الحكومة. لقد شارك بعض الأناركيين بالفعل في الحكومة المركزيَّة في مدريد، التي لا تذهب من دون إثارة أسئلة جوهريَّة تماماً، حتَّى اليوم، حول التماسك وإمكانيَّة وجود موقف أناركي حقيقي في السياسة- في الأقل عندما تدّعي أنَّها تتجاوز مرحلة النزاع: تتخذ التجارب اليوم في الغالب شكل مجموعات ذاتيَّة الإدارة، مدمجة في النماذج السياسيَّة التقليديَّة وليس في المجتمعات اللاسلطويَّة حقاً. في كوبنهاغن، تقدم بلديَّة كريستيانيا المجانيَّة الشهيرة الآن منذ عام 1971، وعلى الرغم من الأزمات التي كان عليها أنْ تمرَّ بها، مثال على نموذج التنظيم السياسي بدون حكومة مركزيَّة، تدار بالكامل من قبل مجالس ومجالس المنطقة.
وتوضّح الباحثة خولة مقراني أنَّ “الفوضَى” كمُفردة مستقلّةٍ بذاتِها، عادةً ما تُثير في النّفوس حالةً من عدم الارتياح وإحساساً بعدم امتلاك معرفة كافية بالظواهر الموسومة بالفوضويَّة، وهذا ما يجعلُها مقرونةً بالقُبح، وبالتّالي يكون الجَمالُ قرين المعرفة. ممّا يعني أنَّ الفوضى في حقيقتِها ليست سوى تَمظهُرٍ لنقصٍ جوهري في معرفتنا البشريَّة، فكلّما توسّعت آفاق هذه المعرفة سيقود الأمر بالضّرورة لتقليص هالة الفوضى وقصّ أجنحتِها.
تُرى نظريَّة الفوضى، بفوضى العالم، كأوّل شيءٍ، فما النّظام إلاّ مُجرّد أفكار يتعايش بها الإنسان، وضعها كأساساتٍ وضوابط يسعى من خلالها إلى فهم الواقع من حوله والكون، يقول هنري آدمز: “كانت الفوضَى قانونُ الطّبيعة، فيما كان النّظام حُلم الإنسان”. وهي وإنْ كان بِها جانبٌ فلسفيٌّ، إلاَّ أنَّ الجانب الآخر منها يهتمُّ بإيجاد أنماط محدّدة من التّرتيب داخلَ الفوضَى الظّاهرة، فلو أمعنّا النّظر بهذه العشوائيَّة لوجدنا نوعاً من النّمط المتكرّر بشكلٍ دَوري مُنتظم، مع ما يبدو عليه الحال الظّاهري من فوضَى.. ويتّضح الأمر بصورةٍ أكبر وأبسط في الهندسة الرياضيّة، فمثلاً لدراسة شكلٍ غير اعتيادي (غير مُنتظم)، نحتاج إلى تقريبه إلى الأشكال الاعتياديَّة الأخرى (المثلث، المربع، الدائرة…).
وتؤكّد مقراني أنَّ نظريَّة الفوضَى هذه تتجاوز هذا المُستوى من الجَمال، لتكونَ مدخلاً وإسقاطاً عامّاً على الأمور اليوميَّة والحياتيَّة للإنسان، فنجدُ وقعَها في السياسة والاقتصاد، ونجدُ لها أيضاً مكاناً كبيراً في أحداثٍ تاريخيَّة وسياسيَّة، بل إنّه من المُمكن القول إنَّ الكثير من تلك الأحداث ومسارها كانت بدَايته خفقَان جناحيْ فراشة أو حتّى بعوضة هُنا أو هُناك… شيءٌ بسيط لتأثيرٍ كبير، ومن يدري!
فوضانا الفرديَّة
وإذا كانت هذه الفوضى كما تشير مقراني إلى النظام ككل، فكيف سنفهم الفوضى نفسها التي يعيشها الفرد؟، وبالتالي تأثيرها في المجتمع عموماً، وهو ما يعيشه معظم الشباب في العراق. فالهدف دائماً أنْ لا يكون هناك شيء تالٍ، بل نعيش حياتنا اليوميَّة كيفما كان، من دون التفكير في ما يمكن أنْ نقدّمه في هذا اليوم أو حتى في المستقبل القريب والبعيد.
هذه هي الفوضى بشكل من الأشكال، وكما تقول الباحثة رشا كناكرية، إنها فوضى تدفع الفرد كأنه في متاهة، ليعيش في فوضى داخليَّة تعكّر أيّامه وتذهب راحة باله ويقف عاجزاً من أين يبدأ وما الطريق الذي يختاره ليخرج نفسه منها؟.
وتضيف، تتعدّد المواقف والظروف التي تؤثّر في حياة الإنسان سلباً وتؤخّر في سعيه للإنجاز، وتسبّب له شعوراً بأنَّه يعيش مشاعر من الفوضى الداخليَّة بأفكار تختلف عن بعضها بعضاً، فالجميع يمرُّ بهذه الحالة في مرحلة من حياته قد تذهب وتعود، لكنَّ الأهم أنْ يعرف كيف يخرج منها ويعود لصفاء ذهنه ويعيد ترتيب شتات نفسه ليستمر في مسير حياته. وفي مثل هذه اللحظات، هنالك أشخاص أدركوا مدى أهميَّة البحث عن منفذ للخروج، وستراتيجيات وطرق متنوعة تعيد التركيز والهدوء الداخلي والصفاء الذهني والتفكير المنظم.
وربّما يكون السبب الرئيس الذي تنجم عنه هذه الفوضى هو عدم وجود أهداف واضحة ومحدّدة عند الفرد وغياب الرؤية لما يريد أنْ يقوم به الذي أساسه غياب التخطيط السليم، فالطبيعي أنْ تكون النتيجة العيش بحالة نفسيَّة من الفوضى وتشتت الأفكار. ومن المحتمل أنَّ الفرد قد يعلم الأسباب، ولكن في بعض الأحيان لا يمتلك الطاقة لتصويب أو تعديل هذا الأمر، فقد يكون خوفاً من المواجهة أو أنَّ عنصر اللامبالاة يسيطر عليه. ويؤكد الغزو أنَّ هذه الفوضى هي مرحلة تحمل أبعاداً نفسيَّة سلبيَّة على الفرد ونتائجها كذلك، إذ يعيش داخل الفرد صراع نفسي في ظلِّ غياب الهدف الواضح والرؤية، وقد يمتلك هدفاً ورؤية، ولكن تقديره للأمور غير صحيح. ويفسر الغزو أنَّ الفرد يقع ضحيَّة في مصيدة التخطيط غير المتقن، إذ يمتلك الهدف والرؤية والأفكار، ولكن التخطيط غير متقن، إضافة إلى المبالغة في تقدير الأمور. ويتابع الغزو أنَّ الفرد في مرحلة من المراحل قد يزعزع ثقته في نفسه نتيجة ارتكابه الأخطاء، وقد تتغير نظرة الآخرين له، لذلك فإنَّ تشتت الأفكار في مرحلة ما قد يقوده لاتخاذ قرار غير صائب، وهذا القرار قد يلحق الضرر بالفرد نفسه أو بالآخرين وعليه أن يتحمل نتيجة ذلك.
وبحسب الدكتور علي الغزو، الذي تنقل كناكرية رأيه، فإنَّ الآثار النفسيَّة التي يعيشها الفرد في حالة الفوضى تتعدّد بين التوتّر والعصبيَّة وقلّة التركيز، فضلاً عن القلق والاكتئاب والخوف، وتكون حالته النفسيَّة غير مستقرّة، مبيناً أنَّ هذا الأمر يتعبه ويسبّب له ضرراً نفسيّاً وجسديّاً، وهذا قد تنعكس نتائجه على الآخرين، إذ إنَّ التعبير عن مشاعر الغضب والحالة العصبيَّة التي يعيشها قد يضر غيره، وفي أسوأ الأحوال قد يلجأ للهروب أو الاستسلام، لهذا فإنَّ المتضرّر الأكبر هو نفسه. “ومن جهة أخرى، فإنَّ الأشخاص المحيطين يلعبون دوراً مهمّاً، فقد يكون لهم تأثير بتقديم النصح والإرشاد، وفي بعض الأحيان قد لا يتقبّل الشخص النصيحة، مؤكّداً دورنا كأفراد في المجتمع أنْ نساعد ونقدم يد العون لهؤلاء الذين يعانون من ظاهرة تشتت الأفكار ونوجههم بالطريقة الصحيحة”، بحسب الغزو. مشيراً إلى أنَّ الخروج من هذه الحالة يعتمد بالدرجة الأولى على الفرد نفسه وعلى مدى القناعات والخبرات التي تعلّمها من الذي مرَّ به، إذ يأخذ استراحة وضمن جلسة تأمّليَّة ليعيد حساباته ويرى أين أخطأ وأصاب وما النتائج التي ترتّبت؟، وخلال هذه الموازنة والجلسة التأمليَّة ومراجعة الذات، يعلم مواطن الضعف والقوّة، بعد ذلك يتصالح مع ذاته ويعيد الثقة في نفسه والتوازن ويصفي ذهنه.
فوضى الكتابة
غالباً ما تفرض الحياة، وتفاصيلها اليوميَّة، غيمتها على لغة الكاتب. اليوميات، والسير في الشوارع، العزلة، والتسوق اليومي، هذا كلّه يدفع بالكاتب ليغير لغته بحسب ما يتفاعل مع المشاهد المعيشة.
في التسعينيات، كانت الفوضى تعمُّ كلَّ نفق من أنفاق الشارع. فوضى في البيت، فوضى في المقهى، فوضى في ارتداء الملابس، فوضى في الالتزام، وفوضى في الفوضى. هذا ما أنتج لغة لم تشذَّب، ملابس غير منسّقة، وكتباً كثيرة متكدّسة فوق بعضها، يعلو فوقها غبار القراءة الذي لم يمسح.
أنتجت هذه الفوضى لغة فضفاضة، ونصوصاً لم تحسب جيداً. ليست الحرب والحصار والجوع والبحث الدائم عن عمل، إلاّ نتاج هذه الفوضى، وليس العكس. وفي الوقت نفسه، تشكّل من خلال هذه الفوضى جيل ما زال غائماً، لم يتسم بمنهج معين، لكنه مع هذا كتب بلغة متقاربة إلى حدٍّ كبير. لغة تشابهت في النصوص والسلوك، لأنها نتاج طبيعي لفوضى واحدة شملت الكل، وكنست الأحلام في طريقها.
ربما تختلف التجربة من بلد لآخر، فالفوضى التي أعقبت النظام في عدد من الدول، أنتجت إبداعاً من نوع خاص، التكعيبيَّة والهيبز، على سبيل المثال، جاءا نتيجة لفوضى عقب نظام. لكن في بلد مثل بلدنا، جاءت الفوضى عقب انهيار وتفكك، ولم تكن الثقافة التي سبقت هذه الفوضى سوى ثقافة سلطة أجبرت الكل على التفكير بمسارات خاضعة لها. لهذا، أنتجتنا نحن، نحن الذين تشبثنا بالفراغ، وبنينا بيوتنا من خلال لغة غير مدروسة، أثقلناها بالاستعارات والمجازات والتهويمات، فكانت نصوصنا خير مثال على مرحلة من الشتات والتشرّد.
الفوضى التي عشناها كانت امتداداً للفوضى التي أنتجها الثمانينيون قبلنا، فهم من دفعوا بنا لهذا الشتات، ولم يكن الثمانينيون آباءً لنا، ولا السبعينيون، بل كانوا مشاركين في هذه الفوضى. نحن الذين خرجنا من معطف الجوع لا أب لنا، جئنا لهذا العالم من الفراغ، لكننا بقينا نحفر في الهواء، ونحرث في الجوع، حتَّى شكلنا غيمتنا الخاصة. غيمة لا سماء لها، تهديها الريح إلى حيثما تشاء، وإذا أمطرت، لم تمطر إلا على رؤوسنا. هكذا، انبثقنا من اللا شيء، ورسمنا خرائطنا على جدران تتساقط، وبنينا بيوتنا في قطرات المطر.
التسعينيون؛ جيل الحرب والحصار، ومن بعدهم، صنعوا هوامشهم، ونسوا المتن. لصقوا ورق الحائط على جدران لم تُبنَ. قرعوا الأجراس لأبواب لم تنصب بعد. هكذا رمَّموا العالم، العالم الذي لا وجود له، وتركوا أجسادهم تتآكل في صراخ المدن، وفي عويل اللغة، اللغة الفوضى.