حجر رشيد.. اكتشافه ودوره في معرفة أسرار الهيروغليفيَّة

ثقافة 2023/08/16
...

لندن: فيء ناصر 



لا تكتمل أي زيارة للمتحف البريطاني في لندن، من دون التوقف أمام حجرٍ غير منتظم الشكل من البازلت الأسود يدعى حجر رشيد أو (روزيتا ستون)، وهذا الحجر هو إحدى النفائس في المتحف البريطاني وقد وصل إلى بريطانيا في العام 1802 بمقتضى اتفاقيَّة العريش عام 1800 التي أُبرمت بين إنكلترا وفرنسا، تسلمت إنكلترا بمقتضاها الحجر وآثارًا أخرى وبدأ الباحثون بترجمة النص اليوناني وعمل عدة نسخٍ من الحجر لغرض دراسته.

هذا الحجر وغيره من الآثار التي أسهمت بفك رموز الهيروغليفيَّة هو محور معرض (الهيروغليفية: فك رموز الحضارة المصريَّة).



قصة حجر رشيد وأهميته؟

بدءاً، اخترعت الكتابة في مصر في حدود 3250 قبل الميلاد لتنظيم المجتمع وتخزين وتوزيع المؤونة. إنَّ أقدم قطعة أثريَّة تؤرخ للكتابة الهيروغليفية في المتحف البريطاني هي وعاء اسطواني مكتوبٌ عليه اسم حاكم مصر العليا (سيكن/ كا) ويعود تاريخه إلى فترة ما قبل توحيد مصر تحت إمرة حاكمٍ واحدٍ هو (نارمر). ويذكر أنَّ الكتابة ظهرت تباعاً في بلاد الرافدين ومصر والصين وأميركا الوسطى. والهيروغليفيَّة تعني الخط المقدس، وكان المصريون القدماء يزينون بها المدافن والمعابد والمسلات ويؤرخون بها الأحداث المهمة لمدة تقارب 3000 عام ومع تطور الكتابة استعملت أدوات مثل الريش أو أقلام القصب للكتابة على البردي، وهذا التطور أدى إلى تقلص الرموز التصويريَّة في الهيروغليفيَّة لصالح خطوطٍ متصلة ومختصرة تدعى هيروطيقيَّة وديموطيقيَّة وأنواع الكتابة الثلاثة هذه استُعملتْ في الحضارة المصريَّة. وبعد أنْ غزا الاسكندر المقدوني مصر عام 330 قبل الميلاد انتشرت الأغريقيَّة، وحجر رشيد التي نقشت في 27 آذار/ مارس عام 196 قبل الميلاد خيرُ مثالٍ على ذلك، وهذا الحجر بمثابة مرسوم تبجيل وشكر رسمي للملك بطليموس الخامس من قبل كهنة مدينة منفس وفيه يطالبون بجعل يوم توليه العرش عيداً مقدساً نظراً لخدماته الجليلة ويشكرونه لقيامه بتمويل المعبد  ولإعفائهم من الضرائب الماليَّة.

اُكتشف هذا الحجر عام 1799 بين أنقاض قلعة قديمة تسمى طابية رشيد في مدينة رشيد إحدى مدن محافظة البحيرة، أثار هذا الحجر الأسود انتباه أحد جنود الحملة الفرنسيَّة بقيادة نابليون بونابرت التي لم تكن حملة عسكريَّة فقط، بل كانت استكشافيَّة لتاريخ وجغرافية مصر، ومن نتائجها جمعُ كميَّة هائلة من القطع الأثرية التي شكلت نواة علم المصريات. هذا الجندي يدعى بيير فرانسواز بوشارد وهو ملازمٌ يعملُ تحت إمرة نيكولاس جاك كونتي، فنان وضابط في الجيش الفرنسي ومخترع قلم الرصاص، وسريعاً تعرف الأخير على الكتابة المنقوشة على هذا الحجر.

يزن حجر رشيد 760 كيلوغرام وبارتفاع 113 سم وعرض 75 سم وجُلبَ من مكان غير معروفٍ حتى الآن لاستخدامه في بناء القلعة، أما ما نُقِشَ على الحجر فهي الهيروغليفيَّة في الجزء الأعلى وهي الكتابة التصويريَّة التي استخدمتْ من قبل رجال الدين في المعابد والديموطيقيَّة في الجزء الأوسط وهي لغة المحادثة اليوميَّة في مصر القديمة والإغريقيَّة القديمة في الجزء السفلي وهي لغة ملوك مصر في عصر البلاطمة. وقراءة هذه الأخيرة هي المفتاح لفهم اللغتين الأولى والثانية. ويعودُ الفضلُ لحل شفرة الهيروغليفيَّة الى عالم الشرقيات ومؤسس علم المصريات الحديث الفرنسي جون فرانسوا شامبليون (1790 / 1832) أستاذ التاريخ القديم في جامعة غرونوبل، فبعد محاولات استمرت خمسة عشر عاماً هرع إلى مكتب أخيه جاك جوزيف المتخصص في اللغة اليونانيَّة القديمة، عام 1822 وهو يصرخ (وجدتها..) وبعدها أغمي عليه لخمسة أيام ثم استفاق وصرّح بشغف كبير: “أريد أنْ أقومَ بدراسة معمقة ومتواصلة لهذه الأمة القديمة الأثريَّة، يملَؤني الحماس الذي سيقودني إلى دراسة آثارهم وقوتهم ومعرفتهم، وسيكبر تقديري لهم إلى ما هو أبعد من ذلك إذ سأكتسب تصورات جديدة عن حضارتهم. ومن بين كل الشعوب الذين أفضلهم، سأقول بأنه لا أحد عزيزاً على قلبي كالمصريين”.

نشر جون شامبليون في العام 1824 كتاب (موجز النظام الهيروغليفي عند المصريين القدماء)، الأمر الذي أدى إلى تعيينه أمينًا للقسم المصري في متحف اللوفر، وقام بعد ذلك بنفسه في رحلة استكشافيَّة إلى مصر.

27 حجراً مشابهاً

لكنَّ حجر رشيد ليس فريداً من نوعه، بل هناك 27 حجراً مشابهاً له أغلبها موجودٌ في مصر وأغلبها مكتوبٌ عليها بهذه اللغات الثلاث التي استعملت في عهد البطالمة، الذي انتهى عام 30 قبل الميلاد بعد موت كليوباترا آخر ملوكهم، حيث انتشرت اليونانيَّة القديمة وكانت هي لغة المعاملات الرسميَّة والبلاط؛ لأنَّ مصر كانت ضمن الامبراطوريَّة الرومانيَّة وبقيت كذلك إلى عهد الفتوحات العربيَّة حتى صارت العربيَّة هي اللغة الرسميَّة في حدود عام 706 م.

شهدت مصر خلال الألفيَّة الأولى قبل الميلاد تحولات ثقافيَّة مهمة؛ لأنَّ أغلب حكامها كانوا روماناً وقد جلب هؤلاء معهم لغتهم وكتابتهم التي تلاقحت مع الهيروغليفيَّة، فمثلاً الكلمات المصريَّة كانت تُقرأ بحروفٍ يونانيَّة كي تساعد في النطق (مثلما نفعل أحياناً مع الإنكليزية حين نكتبها بحروفٍ عربيَّة)، وهكذا بالتدريج تحولت رموز الديموطيقيَّة التي كانت هي لغة المصريين اليوميَّة إلى أصواتٍ لم تكن موجودة في اليونانيَّة من قبل، وفي حوالي 100 بعد الميلاد كان هناك نظامٌ موحدٌ للأبجديَّة المصريَّة مع وجود لهجات محليَّة في مناطق عديدة وقد انحدرت اللغة القبطيَّة من إحدى هذه اللهجات المحليَّة التي ربما تعود إلى شمال مصر الوسطى. ومعنى (قبطي) باليونانيَّة هو مصري.

وهكذا تدريجياً حلّت القبطيَّة والأغريقيَّة محل الأشكال الأخرى للكتابة في مصر بما في ذلك الهيروغليفيَّة. وأدى انتشار المسيحيَّة إلى التخلي عن الطقوس الدينيَّة القديمة وإهمال المعابد، وآخر أثرٍ مكتوبٍ بالهيروغليفية هي مسلة لكاهن من معبد في جزيرة فيلة بالقرب من أسوان ويعود تاريخ هذه المسلة إلى عام 394 بعد الميلاد. وهكذا اندثرت الهيروغليفيَّة بانعدام القدرة على قراءتها. ومثلت اللغة والكتابة القبطيَّة التي ظهرت في القرن الثالث قبل الميلاد معتمدة على الأبجديَّة الأغريقيَّة ومضافاً إليها بعض الرموز من الديموطيقيَّة (للتعبير عن الأصوات المصريَّة التي لم تكن موجودة باليونانيَّة) آخر مرحلة من مراحل اللغة والكتابة المصريَّة القديمة ومع تحول الكثير من المصريين الى المسيحيَّة في القرنين الثاني والثالث الميلادي استخدم المصريون المسيحيون هذه الكتابة بدلاً من الهيروغليفيَّة التي كانت رمزاً للوثنيَّة.


محاولات العلماء العرب في فك رموز الهيروغليفية

استحوذتْ رموز الهيروغليفية المبهمة على اهتمام العلماء والرحالة العرب في القرون الوسطى مثل الأدريسي (المتوفى/ 1251 م) والقلقشندي (المتوفى/ 1418م)، حيث كانوا يأملون في فك رموز الهيروغليفيَّة لأنهم اعتقدوا أنَّها المفتاح لكشف أسرار العلوم القديمة والسحر، لذا استخدم بعضهم الهيروغليفيَّة كرموزٍ مشفرة للأبجديَّة العربيَّة كما فعل ذو النون المصري، بينما استعان آخرون بالأقباط لفك تلك الرموز. أطلق العلماء العرب على الهيروغليفيَّة (لغة الطيور)؛ وذلك لكثرة رموز الطيور فيها. وكانت محاولات أحمد بن أبو بكر بن وحشية النبطي الكلداني المولود في قرية قسين قرب الكوفة القديمة في العراق والمتوفى عام 930 ميلاديَّة، وله كتبٌ كثيرة منها كتابه (الفلاحة النبطيَّة) الذي هو ترجمة لتعاليم الزراعة لسكان العراق القدماء، أثر هذا الكتاب كثيراً في مجال الزراعة وتقنيات الري. لكنْ لابن وحشية النبطي الباحث في العديد من المجالات العلمية مثل الفيزياء والرياضيات والزراعة والأرصاد الجويَّة والسحر والكيمياء، كتابٌ مهمٌ في الترجمة واللغات القديمة بعنوان (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) وهو مصنفٌ احتوى على مقارنة بين العربية و89 لغة قديمة منها الهيروغليفيَّة، هذه المخطوطة تمت ترجمتها وحُققتْ من قبل المستشرق النمساوي جوزيف همر ونُشرتْ في لندن عام 1806 أي قبل ستة عشر عاماً من تاريخ فك شامبليون رموز الهيروغليفيَّة وهذه النسخة ضمن معروضات المعرض وهي من مقتنيات مكتبة جامعة اوكسفورد.

ويرى الدكتور عكاشة الدالي الأستاذ في علم الآثار في كلية لندن الجامعة في كتابه (الألفية المفقودة: مصر القديمة في الكتابات العربية في القرون الوسطى)، أنَّ ابن وحشية قد نجح فعلاً في فك بعض رموز الهيروغليفيَّة قبل تمكن شامبليون من قراءة حجر رشيد بنحو ثمانية قرون.

لم تكن مخطوطة ابن وحشية (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) معروفًة في أوساط المؤرخين واللغويين الفرنسيين في ذلك الوقت، لكنها كانت معروفة جداً لدى أحد أساتذة شامبليون، وهو المستشرق أنطوان إيزاك سلفستر دي ساسي، أستاذ اللغة العربيَّة والفارسيَّة، والخبير في النقوش الساسانيَّة، إذ كانت لديه نسخة منها. ولعلَّ عالم المصريات الفرنسي جان شامبيون تمكن من الوصول إليها.

ضمَّ المعرض أيضاً ما يقارب المئتين وخمسين قطعة أثريَّة تسلط الضوء على أهمية الهيروغليفية مثل الجداريات وأوراق البردي وصور لمسلات مصرية وكتاب الموتى الفرعوني، لكنَّ أحد أهم المعروضات هو (الحوض المرصود) وهو تابوتٌ كبيرٌ من الغرانيت الأسود يعود الى العام 600 قبل الميلاد ومنقوش عليه بالهيروغليفية واكتشف في فترة المماليك قرب جامع ابن طولون واعتقد المصريون أنَّ الشرب أو الاستحمام في هذا الحوض مع ذكر بعض الصلوات والتعاويذ قد تشفي من عذاب الحب ولا تزال المنطقة التي وضع بها الحوض للاستسقاء في القاهرة تسمى بالحوض المرصود.

أحقية مصر بحجر رشيد

يذكر أنَّ هذا المعرض المهم احتفى بمرور مئتي سنة على حلّ شفرة الهيروغليفيَّة، وشهد إقبالاً جماهيرياً مع إقامة فعاليات وندوات تعريفيَّة وتفاعليَّة عن الهيروغليفيَّة وعن الحضارة المصريَّة.

وأيضاً أثار تساؤلات أخلاقية وقانونيَّة ومطالبات بأحقيَّة مصر في استعادة حجر رشيد وغيره من الآثار المهمة التي وصلت إلى بريطانيا أثناء حقبة الاستعمار أو بموجب اتفاقيات لم تكن الحكومات المصرية طرفاً فيها.