محسن مهدي ومشروعه الفلسفي
فوزي حامد الهيتي
تمرّ الذكرى السنويَّة لوفاة العلّامة العراقي والأكاديمي الكبير محسن مهدي الذي تُوفي في شهر حزيران من عام 2007. وخير تكريم يمكن أنْ نقدّمه لأكاديمي رصين بوزن محسن مهدي هو أنْ نقدم مراجعة نقديَّة لأهمِّ أعماله الإبداعيَّة.
وبدءاً نقول إنَّ محسن مهدي من الأكاديميين العرب القلائل الذين أثبتوا حضوراً في الجامعات الغربيَّة وسجل اسمه ضمن أفضل أكاديمييها وصار له تلاميذ وأتباع ومريدون في تلك الجامعات وبخاصة في جامعتي شيكاغو وهارفارد ومراكزهما البحثيَّة. فهو باحث متخصص له منهج رصين في تحقيق النصوص القديمة وتقديمها للقارئ المعاصر. ومحسن مهدي (في السياق نفسه) أستاذ الدراسات الفارابيَّة والخبير بالمعلم الثاني ونصوصه فضلاً عن كونه محقق ومقدم أفضل نسخة من قصة ألف ليلة وليلة التي تُرجمت إلى الغرب وأخذت مكانتها بين أفضل الأعمال الأدبيَّة العالميَّة بفضل جهوده التحقيقيَّة الرصينة لهذه النسخة.
في هذه الورقة أود إثارة بعض الملاحظات حول كتابه (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلاميَّة السياسيَّة). وهذا الكتاب يعدُ من أغنى الكتب وأهمها حول الفارابي وفلسفته السياسيَّة وما نثيره من ملاحظات تبقى أسئلة مشروعة على هامش كتاب هو الأفضل عن الفارابي بالتأكيد.
أولى هذه الملاحظات وأهمها تتعلق بدوافع دراسة الفلسفة السياسيَّة عند الفارابي. لماذا نقرأ الفارابي.. وتحديداً فلسفته السياسيَّة؟، هل هو مجرد جزء من تأريخنا الثقافي وتجربة يمكن الاستئناس بها أو له غرض آخر؟.
يجيبنا محسن مهدي عن هذا السؤال من خلال حوار أجري معه بشأن جدوى دراسته للفلسفة السياسيَّة للفارابي، يقول محسن مهدي: (كنت أرى أنَّ المشكلة الرئيسة في الوطن العربي المعاصر هي إحياء ودعم التفكير في هذين المطلبين، وأنه لا خلاص لهذه الأمة إلا إذا نشأت فيها فلسفة سياسيَّة إنسانيَّة، وظهر فيها من يفهم ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال كما قال ابن رشد، انصب اهتمامي على الفارابي- والكلام لمحسن مهدي طبعاً- لأنه يكاد يكون الوحيد بين الفلاسفة المسلمين، الذي ركز جهوده على هذه الأمور، ولم يكن ابن باجة، وابن رشد، وابن خلدون إلا تلامذة له فيها). (مجلة البيان الكويتيَّة، العدد 230، عام 1985).
ويقصد بهذين المطلبين البحث في أصول الحكم وأشكاله (أي أنواع السياسات والدساتير والرئاسات الممكنة في الاجتماع الإنساني، والتي ترتب العلاقة بين طبقات الناس، وبين الحاكم والمحكومين من جهة، وهي تبحث في علاقة العلم أو الفلسفة بالشريعة أو النواميس من جهة أخرى.)
أي إنَّ إشكاليَّة الفكر العربي المعاصر بحسب محسن مهدي تتلخص في إشكاليَّة الحاكميَّة (مصدر السلطات والتشريع وأنواع الحكومات والدساتير وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم) فضلاً عن تنظيم العلاقة وتحديد وظيفة كل من الشريعة والفلسفة- العقل- وتحديد مجالهما في النظام السياسي والاجتماعي . إذاً إنَّ توجه محسن مهدي نحو الفارابي كان مُغرِضاً وبقصدٍ، لأنَّ (الفارابي بحسب محسن مهدي) أفضل من عالج هذه المسائل في تراثنا الإسلامي القديم.
ولنا أنْ نطرح السؤال الآتي: هل يدعونا محسن مهدي من خلال هذا الكلام إلى تبني الفارابي وفلسفته بعدها أصلاً نستمد منه ونبني عليه مشروعنا السياسي المعاصر؟ وعلى غرار دعوات محمد عابد الجابري بتبني ابن رشد أو طه عبد الرحمن بتبني الغزالي؟.
لنضع هذا السؤال جانباً ونعود إلى كتابه موضوع الحوار.
1 - إن كتاب محسن مهدي (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلاميَّة السياسيَّة) أنجزه بعد سنين طويلة قضاها مع الفارابي تحقيقاً وتنقيباً عن نصوصه الفلسفيَّة. لم يتحدث فيه عن منهجه في تأليف الكتاب ولكن مقدم كتابه (جارلز بتروورث) يذكر أنَّ محسن مهدي تعامل مع نصوص الفارابي وبخاصة السياسيَّة منها بعدِّها وحدة واحدة فكان مدخله في تفسير نصوص الفارابي هو كتابه إحصاء العلوم وبخاصة الفصل الخامس منه، ومن خلاله حاول إعادة بناء نص الفارابي السياسي وتقديمه بعدّه نصاً متكاملاً لا تكرار فيه. فكتب الفارابي المتعددة في الفلسفة المدنيَّة (السياسيَّة) مثل آراء أهل المدينة الفاضلة وفصول منتزعة والملة ونصوص أخرى والسياسة المدنيَّة هي بحسب محسن مهدي نص واحد متكامل لا تكرار فيه.
أي إنَّ منهج محسن مهدي في دراسته للنص الفلسفي بعامة ومنه طبعاً نص الفارابي، أنه يقرأ عمل الفيلسوف بعدّه وحدة واحدة ويفسر بعضه بعضاً فعمل الفيلسوف هو أشبه بكتلة معماريَّة متكاملة تتطلب التركيز الدقيق على عمل الفيلسوف وقد نحتاج إلى الحدس لربط عناصر النص وتحديد دلالتها ومفاتيح النص. وهكذا عمل يحتاج إلى الصبر الطويل والتأني وربما الاسترخاء والتأمل إلى أنْ نصل لفهمه بشكل صحيح. وهذا يعني أنَّ محسن مهدي لا يتبع خطوات تقليديَّة ثابتة في دراسته وتحليله للنص الفلسفي لأنَّ العمل الفلسفي مثل الأعمال المعماريَّة الإبداعيَّة لكل فنان طريقته في تشكيلها وبالتالي تتطلب آليات مناسبة جديدة لفك رموزه وقراءته، كما يصرح هو في مقاله سنوات شيكاغو.
لقد كان مفتاح قراءة نصوص الفارابي السياسيَّة عند محسن مهدي هو كتاب إحصاء العلوم وتحديداً الفصل الخامس منه ومن خلاله أعاد ترتيب نصوصه السياسيَّة الأخرى كما أشرنا.
وهذه الخطوة تتطلب بحسب محسن مهدي أنْ تكون للباحث مهارات عدة، يجب أنْ يكون الباحث ملماً بها يقول محسن مهدي: (تعلمت أنْ أسعى إلى تحمل المسؤوليَّة عن كل جانب من جوانب العمل الذي أنكب عليه حتى لو كان ذلك يعني أنْ أتعلم حِرَفاً مختلفة). (محسن مهدي، سنوات شيكاغو ص 189 ) مثلاً قد يتطلب البحث الترجمة أو التفسير أو التحقيق فضلاً عن إجادته للغة النص المدروس.
2 - والملاحظة الثانية يسجلها كاتب مقدمة كتاب محسن مهدي (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلاميَّة السياسيَّة)، إذ يشير فيها إلى أنَّ محسن مهدي حرر الفارابي من القراءة الأفلوطينيَّة المحدثة التي شاعت عند دارسيه المعاصرين فأعاد قراءته من خلال أفلاطون نفسه وتحديداً من خلال كتابيه النواميس والجمهوريَّة ومن خلال الأفلاطونيَّة الوسيطة التي ظهرت بين عامي 25 قبل الميلاد و250 ميلاديَّة. أي إنه حاول إبعاد الصبغة الصوفيَّة والغنوصيَّة عن دلالات نصه. لماذا أفلاطون وليس أرسطو؟ لأنَّ التصور الفلسفي الأفلاطوني للمهنة الملكيَّة الفاضلة هي صناعة قريبة حد التطابق مع ملل الوحي وعليه هي تشجع طالب الفلسفة لدراسة الأفلاطونيَّة لأنْ يستمد أجوبة للمشكلات السياسيَّة المليَّة.
ويبدو أنَّ اعتماد النص الفلسفي اليوناني مرجعاً في قراءة محسن مهدي للفلسفة الإسلاميَّة منهج اتبعه ليس فقط مع الفارابي بل مع فلاسفة مسلمين آخرين مثل ابن خلدون. ومن يراجع مقالته (سنوات شيكاغو) قد يجد تفسيراً لهذا التوجه المنهجي في دراسة الفلسفة، إذ يشير في هذا المقال عن مدرسة شيكاغو إلى مشتركات منهجيَّة لهذه المدرسة وهي:
- العناية بالمنجز الفلسفي والثقافي اليوناني- الروماني، وبخاصة أفلاطون وأرسطو، ويعدونه الأصل للنهضة الغربيَّة ومصدر إلهام للتقاليد الإنسانويَّة (Humanism) الغربيَّة الحقيقيَّة. يرى ليو شتراوس أستاذ محسن مهدي (أنَّ البحث عن الحكمة يجب أنْ يتوجه نحو القدماء وخصوصاً أفلاطون وأرسطو) لأنَّ الفلسفة تدهورت بعدهما بحسب رأيه (محسن مهدي سنوات شيكاغو ص 175 ).
- إعادة قراءة التراث اليهودي والمسيحي وتأويله عبر التقاليد اليونانيَّة واللاتينيَّة (إحياء لمنهج الإكويني في المزج بين التراث اليوناني والتراث المسيحي). (محسن مهدي سنوات شيكاغو ص 177 ).
من يتابع أبحاث محسن مهدي وبخاصة كتابيه (فلسفة التأريخ عند ابن خلدون.. دراسة في التأصيل الفلسفي لعلم الحضارة) و(الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلاميَّة السياسيَّة)، يلاحظ أنَّ محسن مهدي يقرأ النص الفلسفي الإسلامي أيضاً من خلال الفلسفة اليونانيَّة ويكاد يهمل تماماً البيئة الثقافيَّة التي أنتجت النص أو أنْتِجَ النصُ داخلها. ففي كتابه الأول عن ابن خلدون وهو بحق أول دراسة رصينة رائدة عن ابن خلدون ولكن كما أشار علي الوردي من قبل فإنَّ محسن مهدي قرأ ابن خلدون من خلال منطق أرسطو ومفاهيمه يقول علي الوردي: (وإني مع تقديري لهذا الكتاب وموافقتي على الكثير من الآراء، التي وردت فيه، أخالفه في رأي واحد منها، ففي رأي مهدي أنَّ ابن خلدون جرى في نظريته الاجتماعيَّة على المبادئ المنطقيَّة نفسها التي جرى عليها أفلاطون وأرسطو ومن تابعهما من فلاسفة الإسلام). (علي الوردي، منطق ابن خلدون). والحال يتكرر في دراسته عن الفارابي فهو أيضاً يقرأ الفارابي من خلال أفلاطون وتحديداً من خلال كتاب الجمهوريَّة.
3 - إنَّ الفارابي بحسب محسن مهدي قلب إشكاليَّة العلاقة بين الفلسفة والملة التي كانت مثارة في زمانه إلى إشكاليَّة أخرى هي مسألة العلاقة بين الملة والسياسة وبين فلسفة الملة والفلسفة السياسيَّة (المدنيَّة). والناس في مدينة الفارابي بحسب محسن مهدي يعيشون حياتهم في المدينة وينظمون حياتهم فيها وفق ما لديهم من معرفة عن السماء وليسوا أناساً أجسادهم في الأرض وأرواحهم معلقة في السماء.
4 - والملاحظة الأكثر جديَّة التي لم يقدم لنا محسن مهدي تبريراً لها في كتابه هذا هي أنَّ فلسفة الفارابي السياسيَّة كما قدمها محسن مهدي لم تكن انعكاساً لمشكلات عصر الفارابي وأجوبة لها مثل: ما جدوى النبوة؟ هل وظيفة النبي معرفيَّة فقط أو أنَّ لها وظيفة أخرى هي وظيفة اجتماعيَّة تتمثل في بناء المدينة الفاضلة كما هو أعطاها (أي الفارابي). كيف يمكن أنْ نعيد الوحدة الاجتماعيَّة والسياسيَّة للمجتمع العربي الإسلامي الذي مزقته تعدد الملل والطوائف والنحل؟ وهذا التشرذم الذي يتعارض مع مبدأ الوحدة والتوحيد الذي جاءت به الملة الإسلاميَّة ذاتها؟.
5 - عالج محسن مهدي في كتابه علاقة الفلسفة بالملة بحسب الفارابي لكنه لم يتوقف بجديَّة عند مسألة النبي والفيلسوف وما علاقة كل صفة من هذه الصفات مع الرئيس الأول للمدينة الفاضلة؟. فإذا كان الرئيس الأول بحسب القراءة الأفلاطونيَّة لنص الفارابي (الحكيم هو الحاكم الفاضل)، إذاً، لماذا تغيرت طبيعة الرئاسة بعد غياب الرئيس الأول واضع الشرائع؟ ويصبح الحكيم ضمن الرؤساء الثواني؟ ما الفرق بين الرئيس الفاضل المؤسس للمدينة والذي هو بحسب قراءة محسن مهدي حكيم فيلسوف، عن نظيره الفيلسوف الحكيم المشارك ضمن الرؤساء الثواني؟؟. لا جواب عند محسن مهدي عن هذا السؤال طبعاً، والسبب في اعتقادنا لم ينتبه محسن مهدي إلى أنَّ للفارابي دلالتين لمفهوم الفيلسوف الأولى هي الدلالة التقليديَّة المعروفة، والدلالة الثانية يصطلح عليها بالفيلسوف الكامل الذي يناظر لديه مفهوم الرئيس الأول للمدينة الفاضلة ويأخذ الخصال والصفات ذاتها التي يشترطها الفارابي للرئيس الأول الفاضل في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة.
6 - يرى محسن مهدي مثل الجابري أنَّ ابن سينا أسس لاتجاه فلسفي صوفي أقصى العقل فيه لذلك نرى أنَّ امتداد فلسفة الفارابي صار في الغرب الإسلامي عند ابن باجة وابن رشد وابن خلدون. وهذه الملاحظة تدفعنا لمقاربة ما طرحه محمد عابد الجابري وبخاصة في كتابه نحن والتراث ومنهجه في قراءة النص الفلسفي الإسلامي مع ما يطرحه محسن مهدي. ما سر هذا التشابه في الطرح؟. هل هو توارد أفكار أم أثر وتأثير؟.
7 - كل هذه الأسئلة وغيرها التي كان بعضها مطروحاً زمن الفارابي ونعتقد أنَّ لها أجوبة داخل نص الفارابي السياسي لم يتوقف عندها محسن مهدي في كتابه هذا، بل نظر إلى نص الفارابي بعده جواباً عن تحد واجهته الفلسفة.. الوثنيَّة زمن ملل الوحي التي أسست نظاماً سياسياً بديلاً عن التقاليد القديمة للفلسفة السياسيَّة الوثنيَّة. فكان الفارابي بحسب مهدي أول فيلسوف كبير تصدى لذلك التحدي . كما أنَّ الفارابي قد أنعش الفلسفة السياسيَّة الأفلاطونيَّة ورفعها إلى مرتبة علم يمكنه دراسة ملل الوحي داخل المجتمعات وكذلك بدراسة المجتمعات عينها المستندة إلى ملل الوحي (محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسيَّة، ص 20). لهذا صار نصه إرثاً عالمياً يعود إليه الفلاسفة في مختلف العصور يستمدون منه حلاً كلما عصفت بهم المتغيرات الكبيرة وربما كان محسن مهدي واحداً منهم.
عودة إلى سؤالنا الذي طرحناه في البدء: هل يدعونا محسن مهدي من خلال هذا الكلام إلى تبني الفارابي وفلسفته بعدّها أصلاً نستمد منه ونبني عليه مشروعنا السياسي المعاصر؟.
يبدو لي أنَّ الإجابة هي نعم..
أما مع ابن خلدون فإنَّ مشروع الفارابي السياسي قد نضج وتحددت ملامحه أكثر فابن خلدون قد حصر مهمات الوحي (الملة) بعد غيبة المشرع (النبي) بحدود السماء وما نحتاجه من معارف حولها ويبقى العمران البشري من مهام العقل البشري. لهذا جاء نقد ابن خلدون للميتافيزيقا التقليديَّة بعدها موضوعاً لا يمكن تحصيل معرفة يقينيَّة حوله والأولى أنْ نأخذ معلوماتنا عنه خبراً سماعاً عن الأنبياء ونصرف الجهد البشري (العقلي) في العمران البشري. والمشروع الخلدوني هذا وجد صداه في عصر الحداثة الغربي.