الأصول السايكولوجيَّة لنظرية الغرس الثقافي

آراء 2023/08/17
...






 د. عقيل حبيب

يرجع تاريخ ظهور نظرية الغرس الثقافي Cultivation Theory إلى سبعينات القرن الماضي، حين قام جورج جرينر G.Gerbner وزملاؤه بطرح هذه النظرية التي ترجع اصولها إلى مفهوم ولتر ليبمان W. Lipman للصورة الذهنية، التي تتكون في ذهن الجماهير من خلال وسائل الاعلام. طرح جرينر هذه النظرية بعد عدة تجارب قام بها للإجابة عن سؤال الحكومة الامريكية: كيف تزيد مشاهدة التلفزيون العنف لدى الجماهير؟ بعد ملاحظة هذه الحكومة لتزايد موجات العنف، بعد عدة عمليات اغتيال، كان من أشهرها عملية اغتيال الرئيس الامريكي جون كندي ومارتن لوثر كينج. فتوصل جرينر إلى ان التلفزيون اصبح وسيلة مهمة يعتمد الكثير من الجمهور عليها في تكوين آرائهم حول الواقع الذي يعيشونه، واهم قضاياه. فالتلفزيون يمتلك القدرة السحرية على تحويل قضية ما إلى قضية رأي عام ويجعل منها بالغة التأثير. وتوصل جرينر إلى ان العلاقة بين التعرض للتلفزيون والأفكار والقيم والتصورات علاقة طردية، من حيث عدد ساعات المشاهدة، ومن حيث مضمون   البرنامج التلفزيوني (خاصة العنف)، لهذا اهتم جرينر بتحليل محتوى الرسائل الإعلامية Message System Analysis. فأصبح الواقع المدرك من التلفزيون أقوى من الواقع الخارجي نفسه، وأصبحت الشاشة هي المتحكمة إلى حد ما بالعالم الممتد ما ورائها. لهذا قامت نظرية الغرس على فرضية كبرى تقول: إن الأفراد الذين يتعرضون لمشاهدة التلفزيون بدرجة كبيرة، وبشكل منتظم، يكونون اكثر قابلية لتبني معتقدات عن العالم الاجتماعي تتطابق مع الصور الذهنية والنماذج التي رسخها في أذهانهم التلفزيون، أكثر من الأفراد الذين يتعرضون لمشاهدة منخفضة للتلفزيون. ففي العملية الأولى، أي تعرض الأفراد المكثف فانهم يتلقون دفعا لتوحيد نمط استجابتهم ليأتي منسجما مع المحتوى الاعلامي، ليتم تحولهم من مجرد افراد متفرقين إلى “جمهور”. (يمكن التحدث عن مفهوم “الاستجابة الجمعية”، كمقابل لمفهوم “السلوك الجمعي”). فيقاس مدى نجاح وسيلة الإعلام بقياس حجم قدرتها على استبدال اكبر جزء من العالم (الواقعي) بالعالم الرمزي أو الافتراضي. ووفقا لهذا يصبح افضل صناع للرأي العام هم من يمتلكون قدرة التأثير بأكبر عدد من الجمهور، أو لأطول فترة ممكنة. وهي العملية التي تجري بتوسط وسيلة الاعلام بين صفوة المؤثرين والجمهور.
وفي فرضية فرعية تعود لجورج جرينر نفسه ذات صلة بالفرضية الرئيسة، تقول “يزيد حدوث الغرس من اعتقاد المشاهدين بأن الدراما التي يقدمها المحتوى التلفزيوني واقعية، وتسعى لتقديم حقائق وكشف امور أو اسرار، فهي ليست مجرد خيال، أو خبر عابر”. فقد تحدث عملية توحد المشاهد مع البطل الذي تعرض حياته امامه في الشاشة. وهنا تكمن خطورة التعرض لمشاهد العنف، حيث تشرح عملية الغرس كيف تستعاد تلك المشاهد من قبل الافراد اذا ما تعرضوا لموقف يحمل شحنة من العنف، فتستحضر خبرات العنف المغروسة ويتفجر العنف المكبوت، وهو ما اثبتته الكثير من الدراسات السيكولوجية.
ركزت نظرية الغرس الثقافي على دخول التلفزيون كاحد مصادر عملية التنشئة الاجتماعية، فاغلب اطفال العالم يشاهدون التلفزيون، ولساعات طويلة، ومنذ بداية اعمارهم، فيتأثرون بما يعرضه لهم من نماذج مكررة، وأدوار اجتماعية مختلفة، ومن محتوى، خاصة مشاهد العنف. وهذه النقطة شهدت اهتمام غرينر بتحليل الغرس الثقافي وفقا للعلاقة بين التعرض للرسائل التلفزيونية وإدراك الجمهور لعالمهم الاجتماعي.
إن العلاقة بين الغرس الثقافي والتنشئة الاجتماعية عززت فرضيات جرينر حول تراكمية عملية الغرس وتأثيرها العميق، الذي يصل إلى صناعة الصور الذهنية ويستبطن المعاني العميقة، التي يمكن ان تكون ذات صلة برؤية العالم عند الأفراد والجماعات الخاصة بمعرفة وفهم العالم ككل. لهذا ذهب عدد من العلماء المعاصرين المؤمنين بنظرية الغرس الثقافي إلى الاعتقاد أن تغير وسائل الاعلام من التلفزيون إلى الوسائل الحديثة كالموبايل - وهو ما لم يتناوله جرينر وزملاؤه- بما يحمل من برامج وتطبيقات لم يؤثر في القدرة التفسيرية لما جاءت به نظرية الغرس. فعملية الغرس لا تتأثر بنوع الوسيلة، بل بالمحتوى المقدم، وان النظرية ركزت على التأثير التراكمي الطويل المدى الذي يتخذ من الصور الذهنية والتراكيب النفسية ونظم القيم ميدان له، وهي كلها تركيبات تتميز بالثبات النسبي.
تقوم نظرية الغرس الثقافي على فرضية - تم اختبارها علميا- أن التعرض لوسائل الاتصال الجماهيرية تحدث آثارا وتغيرات في إدراك الناس للعالم، وهذه التغيرات الإدراكية والمعرفية تنعكس على سلوكهم بشكل عام. سريعا، يمكن أن نستنتج (اولا) من هذا التعريف المبسط لنظرية الغرس الثقافي أنها تعتمد مفهوم الجماعي أو الجماهيري كأحد اصولها المفاهيمية، فهي تعمل في وسط جماعي وتنتقل عبر وسائل جماهيرية كالتلفزيون والراديو والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي (جهاز الموبايل)، فلا قيمة للمعلومة لو حدثت لفرد أو مجموعة قليلة من الأفراد. فالتلفزيون يوفر اجابات عامة عن اسئلة عامة تهم الرأي العام. يلتقط قضية عامة ويجعل منها موضوعا لرسالته (الاعلامية)، ولكن ليس بالحياد الذي يفترضه، فالموضوع في وسائل الاعلام يتعرض لإعادة صياغة، على الأقل ليتم تجهيزه ليكون صالحا للتداول الاعلامي، فلا يمكن ابدا غض النظر عن شروط الخطاب. لهذا توصف عملية الغرس بانها عملية ثقافية تعكس الاتجاه الاجتماعي السائد، وتهدف إلى خلق افكار عامة توحد الاستجابة لموقف معين، ليكون هناك (اتجاه سائد) تذوب فيه الفروق التي ترجع إلى عوامل ديموغرافية واجتماعية بين المشاهدين داخل الجماعات الاجتماعية المختلفة. (وهنا يمكن أن يعمل مفهوم الشعبوية).
الاستنتاج (الثاني) بما أن نظرية الغرس الثقافي تعمل على تغيير ادراكات الناس ومعتقداتهم واتجاهاتهم حول موضوع ما فهي، بالتالي تحتاج إلى تعرض كثيف من قبل الافراد لوسائل الاعلام، فلا تعطي عملية الغرس نتائجها ولا تحدث تأثيرها التراكمي إلا بعد مشاهدة وتلقي ومتابعة وسيلة أو مجموعة وسائل اتصالية اعلامية لساعات طويلة وبشكل دوري أو منتظم، أي مدة كافية لغرس صور ذهنية معينة في عقل الجماعة. عملية التعرض المقصودة هنا هي عملية تحدث بشكل عفوي من قبل المتلقين، فبيئة التلقي غير مصممة كما في بيئة الدرس، على سبيل المثال، وهي لا تنتهي بانتهاء وقت الدرس، ولا تعطي نتائجها بشكل مباشر كالمعلومات المعطاة في الدرس، بل يسهم التلفزيون في نقل الصور الذهنية على المدى البعيد، وبشكل عرضي، ولا شعوري احيانا. عملية التعرض لوسائل الإعلام - بحسب نظرية الغرس- مفتوحة على تنوع مصادر تدفق المعلومات، والإنسان يتعرض لها منذ طفولته، بقصد أو بدون
 قصد.