عالمُ الأمومةِ في مجسَّمات منذر علي

ثقافة 2023/08/17
...

 خضير الزيدي

هناك تعبيريَّة واضحة في معالم مجسّمات منذر علي تتخذ من عالم الأمومة وحدة موضوعيّة لسياقها الجمالي والبنائي، وتكمن أهمية هذا التوجه الفني بأكثر من قيمة، إذ تتجلّى جوانب الإنسانيَّة من جهة، وتأخذنا مهارة الأسلوب واتجاهات النحت إلى شغفٍ من نوعٍ تُهيمن فيه الارتجاليَّة ومبدأ الهدم والبناء من جهة ثانية. وحسناً فعل هذا النحّات الذي يُعدّ من الجيل الثالث لنحّاتي العراق بعد أن مهّد  لطرائقه التعامل مع مادة الخشب من دون غيرها من المواد الخام مما جعل الألفة والمهارة واضحة المعالم، وهو يقدم منجزاً نحتيّاً ضمن مادة واحدة في أكثر من معرض شخصي ومهما كان شغفه كبيراً في النحت، إلا أنَّ البساطة والعمق في التعبير سيُصاحب مجسّماته التي نراها ثابتة السياق. فهو يكشف عن وجهات نظر تلتصق بهويته الإنسانيَّة، وكأنّه يطالبنا باللحاق بتعبيريته وهويته ورواسب معطياتها من جوانب عدة. وقد تجسّد في الغالب من تلك المجسّمات الفنيَّة عالم الأمومة والمرأة وهي الأقرب لانتمائه الغريزي. ولكن الملفت أنّه يستثمر ايحاءات عالية الدقة والأهمية حيث الكتلة والفضاء والحسابات الدقيقة للنحت، فهو نحّات هائم بمواقفه اتجاه المرأة ويضاعف من تصوراته التعبيريَّة والجماليَّة كلما حققت له معطيات تجربته النجاح المتواصل، إنَّه يتظاهر بمثاليّة يحبها، ولا يفترض وجهاً غريباً لواقع مؤلم، بل على العكس نجد البساطة والعمق والدلالات الإنسانيَّة حاضرة في منحوتاته لتكون في النهاية أمثولة حقائق يتغنّى بها هذا النحّات مع المتلقي لأعماله.
هذا النحّات بدا لنا وكأنَّه متحمّس لتمثيل عالم الأمومة فهو يهيئ مناخاً نفسيّاً في النحت مما يجعل خطابه الفني ملتزماً بدوافع خياليَّة وذهنيَّة راكزة، فالجسد يقع بين حقلين: تعبيري تهيمن عليه الرشاقة والوصف في تحديد الملامح التشخيصيَّة، وحقل غريزي إنساني يُعيِّنُ مساراً نفسيّاً لتوثيق صلة الإنسان بالتاريخ والوجود والطبيعة، وهناك في الجهة الثانية ما نستدلُّ على أنّه قابعٌ في إثارة حسيَّة تستكمل تصوره الجمالي. بمعنى أنّه ينحت ليس من أجل قيم الفن وبناء العمل وتشكله أمام المتلقي، بل يستغرق الامر الدخول إلى ثوابت جوهر الانسان ليستوفي النحت عنده كل مقومات الرسالة التعبيريَّة والبنائيَّة فنراه يركّز على المرأة من عدة جوانب وتحولات شكليَّة، لكن عالم الأمومة يمثل له حقلاً تعبيرياً ملهماً، ويربط في كل وحداته البنائيّة في المجسّمات بما يمكن أن نسميه قيمة الاشارة في كل حمولاتها. إنّه يُوائم بين خيال خصب واحداث المرأة ليس من باب الاعتقاد الديني أو الشبق الغريزي، بل هناك تمثيل سيُعيد لنا مغريات واقع المرأة ككيان تاريخي منذ بدايات العصور السالفة لكنَّه يُعزز من خطاب العمل بما يتلاءم والمحليَّة ومغزى الانجرار إلى الواقع المعيش لتبدو محصَّنة بتراث ومزايا بيئتها، والامر متروك هنا لفطرته وحساسيته المرهفة اتجاه طبيعة الأم وضرورة عدم مغادرتها في عالم مليء بالدهشة والانسانيَّة، إنَّه يفعل بالمجسّمات ما يمكن أن تكون روابط اشاريّة لتدوين مرحلة من وجوده في الحياة، ولهذا بدت المرأة افتراضاً جماليّاً في نحته وسلطة أمٍّ و زوجةٍ و أختٍ في الطبيعة. ووفق هذا التصور لم يجعل الامر مسطحاً وغير مثير، بل عَمَدَ لإعادة أمثولة الفن الموظف حتى مع غياب الاحساس بالفن جراء رتابة الواقع اليومي الذي نعيشه، وهذا التصور هو خطاب أعماق يعيد للمتلقي أهمية الغنائيَّة في النحت من اجل تلبية حاجات نفسيَّة تزداد ثباتا كلما ارتحلت نحو الذاكرة والعودة الى الماضي ودفء الأمومة والتناغم في مشاعرها، إنّنا نقف عند عتبة فنيَّة تتواشج فيها عناصر الجمال مع السمة الشعوريَّة لكي لا يصعب فهم البراءة من جهة وبراعة التكوين ومرجعيات العمل من جهة ثانية.
نحّات مثل منذر علي خبر العمل منذ سنوات لن تغيب عنه مرجعيّة المحليّة العراقيّة والتناغم في حضن الأم والدعوة لفهم الموروث الشعبي وفرادته العاليّة في التأثير النفسي والاجتماعي لدى المتلقي.. لقد ترك لنا لمسات تعبيريَّة تثمر عن العودة إلى قراءة وإعادة فهم المرأة من عدة جوانب وكانت مادة الخشب أكثر استدلالاً من الطين والرخام والبرونز؛ لأنَّ الإنسان تعايش مع الطبيعة بألفة وحنين وتوظيف رمزيَّة الأمومة تنسجم تماماً مع هذا التصور البنائي لمثل مادة الخشب.