اللعِبُ بالقناعات أو الخطاب الاستلابي للاستشراق

ثقافة 2023/08/17
...

  د. فارس عزيز المدرِّس

 تحاول الكثيرُ من الدراسات الإنسانيَّة تحصين نفسها بمناهج تتحرّى من خلالها عن الحقيقة، لكنها تدري أو لا تدري أحياناً أنها تخضع لهيمنة النسق. والنسق يطوِّع الأفكار؛ ويتخذها وسيلة لنفاذ الإرادات، ثمَّ يأتي الخطابُ والمنطق الذرائعي ليسبغ على النسق صفة العلمية، ويوفر له الإقناع.النسق: أحكامٌ مرتبة في نظام يستند إلى مقدمات يقرِّرُ هو صدقها، وإقصاء ما سواها. وهذا متفش في الكثير من الدراسات الإنسانيذة؛ وفي كل الثقافات، ونلحظه في دراساتنا وكتبنا، ونجده أيضاً في قسم من منتجات المستشرقين.
 ليس هناك ادّعاء منطقي ينفي فائدة المنهج؛ لكنَّ هذا لا يعني تركَ فحصِهِ ومراقبته، وفرزِه عن السلوك الخداعي الذي يحاول إضفاء العلمية على الخطاب؛ ويحميه من حومة الافتضاح. وليس سوء النيّة وحده طريقاً إلى اهتضام الحقيقة؛ بل الجهل أيضاً. ولمّا كان موضوعنا موجّهاً إلى خطابِ الاستشراق فسيكون له خصوصيّةً.
الخطابُ: ملفوظٌ لغويٌّ يبْتغي الهيمنةَ على ذهن السامع، ويفرض عليه التصوراتِ؛ عِبر أساليب اقناعيَّة؛ تتخذ مِن النزوعِ المنطقي والتّلاعبِ باللغة وسيلةً لتمرير أحكامٍ يُسبغ عليها القطعيّة. والخطاب يستغلُّ كلَّ وسيلة مؤثّرة تُتاح أمامه. والدراسات الحديثة راحتْ تُعطي الخطابَ عنايةً - بوصفه مُتستّراً على المسكوت عنه - وراحت تتفحَّصُ عن كثَبٍ استنتاجات المنهج ومخرجاته، وتفضح
خياناته.
وفي أنموذج الاستشراق سأُعطي أمثلةً على خيانةِ المنهج للوصول إلى أحكام لا كبيرَ صلةٍ لها بأخلاقيات العلم؛ فمثلاً المستشرقُ البريطاني مارگوليوث ومنذ البدء وضع نصب عينيه مسلّمات قبليّة تُفسّر تاريخَ اللغة العربيَّة؛ اعتمد فيها على ادعاءات مفادها: أن علمَ الآثار طريق أمثل لإثبات تصوراته عن تاريخ اللغة العربيّة، ومصدريّة الشعر الجاهلي، وإنّه سيتّبع أيضاً منهجَ الشكِّ الديكارتي للتحرّي عن الحقيقة. ومَن لا يرضى بديكارت ومنهجه في الوصول إلى الحقيقة؟!.
 ومنذ البدء تسلّح مرگوليوث بوسيلتين يكمُّ بهما الأفواه؛ الأولى: الركونُ إلى ديكارت في الشك بالمسلّمات القارّة؛ بهدف خدمة الحقيقة. وهذا مِن حيثُ المبدأ مقبولٌ؛ لكنْ - ومن خلال ما كتب ماركوليوث - يتبيّن أنَّ خطابَه هدف إلى إخضاع القناعات، فالشكَ الديكارتي كان وسيلةً وليس هدفاً، في حين اتخذ مارگوليوث الشكَّ هدفاً، للوصول إلى الإنكار والنفي.
ووقع طه حسين - في بوادر نقده مصادر الشعر الجاهلي - في مطبِّ الاستلاب الذي انتهجه مارگوليوث؛ ظناً منه أنّ ماركوليوث مارس الشك العلمي فعلاً، وأكاد أقطع بأنَّ مارگوليوث وطه حسين لا يعرفان الحدَّ الأدنى من منهج الشك الديكارتي؛ خلا معالمه الصوريّة.
أمَّا الوسيلةُ الثانية التي قال بها مرگوليوث: فالاستعانةُ بعِلم الآثار؛ لإثبات قناعاتِه القبْليّة بخصوص الشعر الجاهلي. ولا أحد ينفي الجدوى من علم الآثار في إثبات حقائق التاريخ؛ لكن إعمام جزئيةٍ ضئيلةِ القيمة وجعلها أساساً لحُكمٍ يدّعي صاحبُه أنه مُمارسةٌ منهجيّةٌ مطلقةُ الصحة؛ فهذا إتيانٌ على الحقيقة.
هل كان مرگوليوث ينطلق من التسليم بمعطيات علم الآثار حقاً؟ وهل وجد في علم الآثار ما يعضّد رؤيته؟ الجوابُ: لا. وهل كانت تفسيراته لدلالات النص القرآني حيادية؟ أم كانت أحكاما مسبقة؛ طوّعَها لمنهجه؛ فصار استعمالُه لمنهج الشك أداة لخدمة خطابه المدعومِ بفروضٍ آركيوليجية هشّة.
شك مارگوليوث في بحثه “أصول الشعر العربي The Origins of Arabic Poetry  بوجود هذا الشعر جملةً؛ مستندا إلى روايات ناقصة؛ إلا أنّه تمادى مدعيا أن هذا ما ذهب إليه ابن سلام الجُمحي؛ في كتابه »طبقاتُ الشعراء الجاهليين«؛ في حين أنّ ابن سلام لم يشك في شعر هو أحد حفاظه، وعمِله انصبَّ على غربلة الشعر الجاهلي، وإقصاء الموضوع والمُنتحَل منه؛ وعملُه كان توثيقيّاً مِن حيث المبدأ. وهنا نلاحظ كيف يستعين الخطابُ بمرجعياتٍ ناقصة؛ فاستشهادُ مارگوليوث بآراءِ ابن سلام لا تُقنع إلا مَن لم يقرأ كتابَه، ويفهم مَقاصده، إذْ هناك بونٌ شاسعٌ بينه وبين شك مارگوليوث.
 وآراء مارگوليوث هي آراء نولدكه الذي سبقه بستين عاما، مستعيناً بحسب ادعائه بالنقوش الحميريّة والسبأيّة. ثم جاء گولتسيهر؛ وكرّر ما ذهب إليه الأخيران، إلى أن أتى تشارلز ليال؛ رافع لواء الدراسات الشرقية في بلده؛ ففنّد ما أورده ماگوليوث، ثم أعقبه آرثر آربري الذي قال ما نصه: ((إن السفسطة وأخشى أن أقول الغش في بعض الأدلة التي ساقها مارگوليوث لا تليق برجل كان من أئمة العلم)).
ليس هناك تراثٌ عالمي أقلّ عُرضةً للشكِّ من الشعر الجاهلي؛ لكنَّ نُكران وجود هذا الشعر له هدفٌ عقيدي يطمح بعضُ المستشرقين مِن ذوي الميول اللاهوتية إلى تمريره؛ لأنَّ له علاقةٌ بمصداقية القرآن، وهذا ما سنجِدُ صداه لدى باتريشا كرونا ومايكل كوك؛ في كتابيهما »الهاجريون«.
ترى كرونا أنَّ الإسلام المبكر لا بدَّ أنْ تُعادَ قراءته على وفق منهج تاريخي، ثم فيلولوجي، والإسلامُ ليس له ذِكرٌ في المصادر السريانية، وهذا يدلُّ على أنه لم يكن موجوداً أصلا!!. لكنَّ نُسَخَ القرآن التي اكتُشِفتْ في اليمن وقطَعَ الفحصُ العلميُّ بعودتها في أبعد تقدير إلى سبعين عاماً للهجرة نسَف ادّعاءات كرونا. لكنْ أي جدوى في أنْ تعتذرَ كرونا لاحقاً عن صفاقتها؛ بعد أنْ كشفت الأدلةُ الأركلوجية فوضى نظريتها وكذبها.
  وتعجبُ كلَّ العجبِ مِن إصرارها على الطعن بالإسلام المُبكر، عِبر محاولة الترويج لفكرة أنّ الإسلامَ ظهر في العصر العباسي، وتحشر كمّاً مِن الإحالات والهوامش؛ معتمدةً على فكرةٍ مفادُها أنَّ النصوصَ السريانية لم تذكرْ شيئاً عن الإسلام؛ قبل القرن السابع الميلادي، وما المسلمون إلا أصحابُ عقيدةٍ هاجريَّة ( نسبة إلى هاجَر)!.
   أمَّا كيف انتقل العربُ مِن الجزيرةِ إلى العراق والشام وكيف ظهر عصرُ صدرِ الإسلام، وكيف حارب المسلمون الرومَ والفرس؛ فأمرٌ لا يعنيها؛ إذ القضيةُ شطبٌ للتواريخ؛ ليس تواريخ العرب فحسبُ؛ بل الروم والفرس أيضا. ولو سلّمنا جدلاً برأي كرونا فلنا أنْ نسالَ: أين المدّةُ التي بين العصر العباسي وزمن البعثةِ!. هل تبخرتْ؛ هل توقّف الزمنُ!، أم تمَّ شطبُها وشطبُ مدن بكاملها؟ كما فعلت كرونا في شطب مكةَ من الوجود!؛ في كتابها الآخر » تجارةُ مكة«.
من مظاهر التمحور حول الذات نفي التواريخ المهمة للآخر، والتركيز على تواريخ منقاةٍ تحاول تغييب العربي، أو التقليل من فاعليته الحضارية. وإذا حصل أن ظهرت له معالمُ حضارية لا يمكن نكرانها تلجأ العقلية المركزية إلى تأويلها؛ لتحرف مجرى الفعل التاريخي، ومن ثَمَّ الادعاءُ بأن مَعالم الحيويةِ الحضاريةِ للآخر (العربي على الخصوص) تؤول إلى القطب الفاعل؛ وهو الحضارة الغربية. أو محاولة إرجاع هذه الحيوية الحضارية إلى أيِّ مصادر أخرى؛ في حالة العجز عن وجود قرائن للرجوع بها إلى الحضارة الغربية، وهذا يعني أن كل نهوضٍ حضاريٍّ لا يأتي من الإسلام، وإن أتى فليس مصدره العرب!.
  في كتابيه: (الاستشراق) و (العالم والنص والناقد) حاول إدوارد سعيد معالجةَ النص الاستشراقي عبر لازمتين: الأولى تحليل الخطاب الاستشراقي، والثانية فضح طبيعتِه؛ مركزاً على أنّ الشرقَ في الكتاباتِ الاستشراقية يتمُّ تصنيعه لغوياً، ثم يُعرض على القارئ وكأنه شرقٌ حقيقي. في حين انصبت كتابات فوكو ودريدا على حفريات النص؛ بغية الكشف عن مساوئ الخطاب واللعب باللغة. وفوكو تحدث عن الحفرياتِ الدلالية لأجل فهم الكيفية التي تمكنت بها إرادة التسلط في المجتمع والتاريخ من اكتشاف طريقة لإكساء نفسها بثوب النظام والعقلانية.
إنَّ اللغة في مراوغتها وسطوتها وجزمها هي ما دعاهُ فوكو بالخطاب Discourse. ومتى جُيِّرَ الخطاب لصالح منهج قمعي تحول إلى ممارسة إنكاريَّة؛ مهما ادّعى صاحبُه العلميةَ وطلب الحقيقة. يقول فوكو: “القمع ليس مجرد منعٍ؛ بل إسكات ما يجب قمعه، إنّه يعمل على وفق آليّةٍ ثلاثيَّة من التحريم والتغييب والصمت. والقمع هو ما يحرّم الموضوع من مادياته، والذات من قدراتها”.
 إنَّ الفرقَ بين الخطاب الاستلابي وغيره من ضروب الضغوطِ والتأثيرات الاجتماعية إصرارُه على تفعيل محصلاته وتحيزاته على الناس في مستوى القاعدة؛ لا في مستوى الهيكل العلوي فحسب. وهنا تتكشّف سطوةُ قسم مِن جهود الاستشراق في قدرته على احتكار حق التفسير وإبداء الأحكام عِبر الادعاء المنهجي. وقد توسّع سعيدٌ في فضح آليّة اشتغال الخطاب الاستشراقي؛ بوصفه رسالةً هدفُها اللعبُ بالقناعاتِ، وتشكيل شرق عاطل عن كل عطاء.
 ومن نافلة القول التنويه إلى أنَّ خداعية قسم من الخطاب الاستشراقي لا تستهدف تظليل المجتمع الشرقي فحسب؛ بل الوعي الغربي أيضا؛ وهنا يبدو جليّاً اشتغال العرقية والتصنيف الديني. والتصنيف العرقي ليس من اختلاقات المستشرقين وحدهم، بل له جذور عميقة في مفاصل الفكر الأوربي، خذ مثلاً فلسفة التاريخ عند هيجل؛ حين حاول المقابلةَ بين الروح والعقل؛ فخلص إلى أنّ النموذجَ الغربي هو النموذج الأبوي للعالم؛ بعد أنْ شاخ الشرقُ؛ ولم يعد له إلا عطاء رومانسي. وهو ليس سوى مرحلةُ طفولة للروح العالمي!، لماذا؟ لأنَّ هيجل لا يطيق أنْ تكون للغرب مرجعيةً شرقيّة؛ حتى وإنْ كانت مسيحيّة. وهنا تشكّلت لديه عمليةُ شطبِ التواريخ، كما تشكّلتْ لدى قسمٍ
مِن المستشرقين.