التوحُّد.. اضطرابٌ يتزايدُ بتعدّد الأسباب
عواطف مدلول
توحدي مواليد 2003 أكمل عامه العشرين الآن بعد أن تخرج في الثانويَّة العامة والتحق بهندسة الحاسبات وحالياً يدرس بالمرحلة الثانية فيها، بذلت معه والدته كثيراً من الجهد والمثابرة للوصول به الى ذلك المستوى، إذ اكتشفت إصابته بالتوحد عندما كان بعمر الأربع سنوات وأثناء تعرضه لحادث خلال أيام الطائفيَّة، حيث وضع السلاح على رأسه وكاد يقتله، ولم تبدر منه أي مشاعر خوف، أدركت حينها أن طفلها غير طبيعي ولا يشبه بقيَّة أقرانه. تقول الأم التي تعمل في أحد مجالات الطب: {في العام 2007 لم يكن التوحد معروفاً في بلدنا، لذلك غادرت به الى إحدى دول الخليج، وتم تشخيص حالته بفرط الحركة وقلة التركيز مع صفات توحديَّة بين المتوسطة والضعيفة، وتمكنت من متابعته بالأدويَّة والسلوكيات وتعبت كثيراً معه، فهو كان لا يتكلم أبداً ولا ينتبه للآخرين، بحيث لا يهمه كل ما يجري حوله، وفي الحقيقة عندما خرجت به لبلد آخر سعياً لعلاج النطق أول مرة، لكنْ بعد مراجعة طبيبة مختصة بهذا المجال شخصت حالته بشكلٍ أدق وتمَّ تحويله لطبيبٍ سلوكي، من محاسن الصدف كان الطبيب عراقي الجنسيَّة ولديه دكتوراه بالتوحد، معه انطلقت رحلة العلاج}.
الربح الأهم
وتضيف: "تأكدت خلال تلك السنوات أن التوحد هو الطيف الذي لا شفاء نهائياً فيه، إلا أن ابني بات لا يعاني من أي مشكلة، فقط التواصل مع المجتمع، إذ يتسم بكونه محبوباً جداً لأنه غير مؤذٍ ولا كذاب، ولكن ليس بمقدرة أي شخصٍ أن يصبح صديقاً له".
موضحة "في البداية لم يكن انعزالياً أبداً لكنْ فجأة صار كلما تحدثنا معه لا ينتبه لنا، البعض يقول إن تلك الحالة تنتج بسبب الغذاء، وآخرون يعللون ذلك بنقص الأوكسجين، وهناك من يؤكد أنَّ الأمر متعلقٌ بوجود طفرة وراثيَّة تكون من جهة أهل الأم، وآراءٌ تشير الى زيادة نوعٍ من المعادن، أو أنَّ العمليَّة القيصيريَّة وخروج الطفل في غير موعده هو السبب، لكن كل تلك العوامل غير مثبتة علمياً لغاية الآن".
مبينة أن "الأطباء نصحوها بتوجيه اهتمامات ابنها نحو بعض الرياضات كالسباحة والكراتيه والفروسيَّة، وقد قامت بتسجيله في معهد للسباحة بعمر خمس سنوات وخلال ثلاث سنوات أصبح الكابتن بتلك الهواية، وفي الكراتيه أخذ الحزام الأسود بعد أربع سنوات تدريب وأضحى ماستر كراتيه".
وتعرب عن سرورها لوضعه الحالي الذي تعدّه إنجازاً عظيماً بالنسبة لها قائلة: "صحيح أنني تركت بلدي وأهلي وكل شيء خلفي، وخسرت وظيفتي، لكني ربحت ابني وذلك هو الأهم".
متاهة وإحباط
يصف أحمد جميل إصابة ابنته الوحيدة بالتوحد بـ"أصعب" اختبارٍ وضع به مع زوجته، مبيناً "لم يكن أمامنا غير السير بذلك الطريق الذي ليس له عودة، فهو أشبه بالضياع في متاهة لا نهاية لها لكثرة ما شاهدنا من حالات، وترددنا على المعاهد التي تفتقر معظمها الى الخبرة بذلك المجال، وعدم وجود المدرب الذي يمنح وقته ويتصرف بضميرٍ حقيقي مع كل مصاب، فأحبطنا ولذلك لجأنا في النهاية الى أطباء الأعصاب، ودخلنا بكروبات في وسائل التواصل الاجتماعي، وبصراحة أحدثت فرقاً كبيراً في تعلمنا طرق التعامل مع ابنتنا، إذ إنَّ هناك ممارسات من المستحيل أنْ يتقنها المدرب بالحماس والقابيلة ذاتها للمصاب مثلما يقدمها له أهله، باستثناء بعض الجلسات الضروريَّة والأنشطة التي تساعدنا في تحسن وضعه، لكن هناك مواقف تحتاج الى صبرٍ وحبٍ حقيقي وتضحية لكي يصبح بالإمكان تجاوزها، لا يمكن أنْ يتحملها غير الأبوين، إلا إذا كانوا جاهلين طبعاً بطبيعة حالته ومدى خطورتها، لذا هناك من يعنف من قبلهم ظناً منهم أنَّه الحل لتأديبه، لا سيما إذا تتكرر عنده فرط الحركة ونوبات من الصراخ أو البكاء، أما الانعزلي والمشتت فيواجه في الأسر غير الواعية قسوة تزيد من عقده فتظهر بشكلٍ واضح".
العلاج بالحيوانات
سعد كامل المختص بالتنمية البشريَّة يخالف الرأي السائد بعدم وجود علاجٍ للتوحد، مشيراً الى أنَّ "هناك تقنيات نفسيَّة يمكن اتباعها لتحقيق ذلك الغرض، ومنها العلاج بالحيوانات، إذ وجد أنَّ له تأثيراً إيجابياً كبيراً في الأطفال المصابين بالتوحد، إذ يمكن أنْ يساعدهم هذا على بناء الثقة لديهم، وتوسيع مهاراتهم الاجتماعيَّة".
ويذكر أيضاً طرقاً أخرى ومنها أَّن الطفل أكثر سهولة في الاستثارة وأكثر تعبيراً من غيره لمشاعر أمه، وقد تدفعه بعض الإيحاءات المثيرة للعواطف الى البكاء أو السعادة، أي تحريك قدراته النفسيَّة بواسطة والدته، وتتجلى درجة التقارب العاطفي بينهما في توافق الحركات البدنيَّة (إنها رقصة) عندما يتحركان في الوقت عينه.
يرى كذلك أنَّ المحاكاة التي من خلالها يمكن أنْ تولد عند الأم أو الأب داخل أنفسهم مزاجاً للمصاب بالتوحد، وتأتي هنا كآليَّة لا شعوريَّة لتعبيرات وجه المتوحد ونبرة صوته، الى غير ذلك من الإشارات غير اللفظيَّة (لغة الجسد) التي تعبر عن المشاعر، وهي صورة مصغرة مماثلة لما يقوم به الممثل عند استدعاء إيماءات وحركات مرتبطة بموقفٍ ما هزه بشدة في الماضي لكي يعيد تجسيده في مشهدٍ تمثيلي.
ويشرح كامل التقنيات النفسيَّة الأخرى مثل التكيف (Adaptation) وهو تعبير الأم عن الشعور ذاته بالسعادة بالتربيت برفق على كتفه، أو محاكاة صياحه أو مجاراة نبرة صوته، فعليها أن تمارس دور الممثلين لأنهم أساتذة العرض العاطفي، وقدرتهم على التعبير هي التي تحدث الاستجابة لدى الجمهو، وهنالك أمهات يملكن هذه الموهبة بشكل طبيعي".
القيادة العاطفيَّة
ويحدد كامل التقنيَّة الأخرى المتمثلة بالعدوى، إذ هناك مبدأ أساسي في الحياة الاجتماعيَّة وهو أنَّ المشاعر تنتقل بالعدوى، وهي تبادلٌ ضمنيٌّ يحدث كل لقاء بين الطفل المصاب بالتوحد والآخرين، إذ يتمُّ التقاط الحالة المزاجيَّة بوسائل نفسيَّة خفيَّة، ويكون التبادل العاطفي على مستوى دقيقٍ وغير مرئي، إذ إنَّ الطريقة التي تقول بها الأم شكراً قد تشعر المتوحد بالتقدير والحنان أو قد تشعره بالتجاهل، فطفل التوحد يلتقط - ولو بصورة بطيئة - بعض المشاعر كما لو كانت أحد أشكال الفيروسات الاجتماعيَّة.
ومن الوسائل الأخرى أيضاً هي القيادة العاطفيَّة للطفل المصاب بالتوحد، فالأم تستطيع تحديد النبرة العاطفيَّة في إطار التفاعل وهي إشارة للسيطرة على المستوى العميق الأكثر حميميَّة، إن هذه القيادة تقود الى الإيقاع البايولوجي، والتي تشبه دورة الليل والنهار أو منازل القمر على مدار الشهر، إذ إنَّ علاج التوحد يكمنُ في العبقريَّة العاطفيَّة لدى المعالج أو الأبوين، فقد تنجح الأم خصوصاً في إجراء أشعة عاطفيَّة على الحوارات الداخليَّة التي تدور بالتوازي مع الحوار الخارجي الذي يدور حوله وعليها أي الأم أنَّ تلتقط بعدستها السلبيَّة والإيجابيَّة إشارات وإيماءات ونبرات صوت الطفل.
السلوك الخاطئ
يجد سعد كامل "مثلما تشكل الكلمة أساس الحياة العاقلة أو المنطقيَّة فإنَّ الرسائل غير اللفظيَّة هي منبت الحياة العاطفيَّة، وهناك قاعدة في علم التواصل وهي أنَّ 90 % من الرسائل العاطفيَّة تكون غير لفظيَّة وبالتالي على معالج التوحد أنْ تتفق كلماته مع نبرة صوته وحركاته، وغير ذلك من القنوات غير اللفظيَّة، علما أنك ستجد الحقيقة في الطريقة التي تتحدث بها الأم أو الأب أو الطبيب وليس في ما يقولونه".
ويختتم بالإشارة الى علاجات أخرى بالممارسة، إذ يمكن أنْ يساعد المتوحد على تعليم المهارات الحياتيَّة التي تتضمن حركات حركيَّة دقيقة، مثل ارتداء الملابس، واستخدام الأواني، والقص بالمقص، والكتابة، حيث يعمل على تحسين نوعيَّة حياة الطفل.
كذلك الدعم السلوكي ويتمّ ذلك عن طريق تقسيم السلوك المعقد إلى سلسلة من المهام الأصغر، وبينما يتعلم الأطفال كل خطوة، يتم الثناء عليهم ومكافأتهم، مع تجاهل السلوك الخاطئ عندما يحدث.
قناة العراقيَّة
أما عن دور الإعلام في التعريف بالتوحد وتوجيه الناس حوله، يحكي الإعلامي رسول خضر الزبون (مقدم برامج في قناة العراقيَّة العامة/ شبكة الإعلام العراقي والخبير في مجال الإعلام الخاص باضطراب التوحد) عن رحلته التي بدأت بهذا الخصوص عام 2006 قائلاً: "توفرت لي الفرصة للاطلاع على تجربة السيدة نبراس التميمي خبيرة أطفال التوحد في العراق، والمشاركة الرئيسة في التجمع العربي لأطفال التوحد في زمن الطائفيَّة، فتابعت عن كثبٍ ماذا كانت تقدم لهذه الشريحة المهمشة تماماً، وقد التقيت بها في حلقة خاصَّة في برنامجي (العراقيَّة تطبع)، في الوقت الذي كانت أغلب البيوت والأسر لا تكاد تخلو من وجود طفلٍ يعاني من طيفٍ توحدي بأنواعه السبعة عشر، أو من الأطفال المصابين بعاهات معينة، والذين نطلق عليهم تسمية أصحاب الهمم أو ذوي الاحتياجات الخاصة".
وأشار الى أنَّه قبل الثلاثين عاماً الماضية "كانت نسبة التوحد واحداً من أصل ثمانين ألف طفل سليم معافى، ولكنَّ هذا الرقم خلال السنوات العشر الأخيرة الماضية، وصل الى حدود طفلٍ توحدي من أصل 65 طفلاً في العالم، أما الأرقام في أميركا فهي مرعبة جداً، فلقد وصلت الى طفلٍ توحدي من كل 45 طفلاً أميركياً، وقد اختلفت أسباب ذلك الارتفاع الكبير، هل هي نتيجة اللقاحات العالميَّة؟ وهذا ما حدث في أميركا، إذ إنَّ هناك دعاوى قضائيَّة على أصحاب الشركات العلاجيَّة والدوائيَّة، أم جرَّاء التلوث أو الأطعمة، هذه كلها ربما عوامل مساعدة لانتشار التوحد".
مضيفاً: "لأجل أنْ يكون لشبكة الإعلام العراقي وقناة العراقيَّة سبقٌ، فقد أنجزت مجموعة من الأفلام الوثائقيَّة عام 2006، ومنها فيلم التوحد والثاني أطفال التوحد وتقديم سلسلة من البرامج المتنوعة مثل ابني مميز، وجميعها تخص أطفال التوحد وبطيئي التعلم الذين يحتاجون الى رعاية خاصَّة، واستمرت لقرابة عامٍ كاملٍ، كذلك قمت بطباعة كتابٍ اسمه (علاج أطفال التوحد منزلياً)، الى جانب تقديم حلقة خاصة عن التوحد في برنامجي القديم (مكتبة العراقيَّة)، كما كان لي الشرف بإنجاز حلقتين خاصتين عنه مع مدرسة النبراس ومعهد الرحمن للتوحد".
النموذج الجيد
موضحاً: "ربما يقال لماذا تختص بأأطفال التوحد وبطيئي التعلم وتشير دائماً الى مدرسة النبراس، أقولها وبملء فمي وبضرسٍ قاطعٍ أنا أبحثُ عن العلميَّة والكفاءة، وهذا الأمر لم أجده إلا عند تلك الأخت الفاضلة مديرة المدرسة لأنها كانت مع علميتها تحاول جهد الإمكان أنْ تخفف العبء عن الأطفال وعن أسرهم سواء المادي أو المعنوي، وأسهمت بافتتاح أكثر من ثلاثين مركزاً بالعراق تقوم من خلالها بتدريب أولياء الأمور، وكذلك الأساتذة والراغبين بافتتاح مراكز للتوحد مجاناً، فضلاً عن مشاركتها بافتتاح عددٍ من المراكز في محافظات العراق، بالتعاون مع 12 مركزاً للعتبة الحسينيَّة المقدسة مجاناً أيضاً، الى جانب دعم الدراسات العليا في الماجستير بوزارة الصحة، فبرأيي إنَّ الإعلام ينبغي أنْ يسلط الضوء على النموذج الجيد من العراقيين الأصلاء وليس تجار العلاجات، لأنني كثيراً ما أسأل: هل هناك علاجٌ سحريٌّ لأطفال التوحد ودائماً أجيب: بحثت مع أساتذه ومختصين خلال 17 عاماً في العراق وخارجه، لم يكن هناك علاجٌ إطلاقاً، لكنَّ العلاج الحقيقي هو سلوكي، ولذلك فقد وصل أطفال التوحد في مدرسة النبراس الآن للتخرج في السادس الابتدائي، ولديهم مثالٌ على نجاحهم (رامي) الطفل الذي كان يدرس بذلك المركز وقد تزوج بدبي ومستقر فيها، وله فسحة أمل في مشاريع بالاستثمار المالي حالياً".
تجارب ناجحة
واختتم الزبون: "من حسن حظي أنَّني تعاملت وكشفت عن التجارب الناجحة والملهمة للآخرين بذلك المجال، ولا يمكن بحال من الأحوال أنْ أسمحَ لنفسي أنْ اصطفَّ بجانب الإعلام المادي الذي يذهب الى رياض الأطفال المكتوب على جدرانها أنها روضة متخصصة بأطفال التوحد، فنجدها تصرف لهم علاجات الأوكسجين والمكملات الغذائيَّة، نعم بعضهم قد يحتاجها لكنها ليست هي الحل الوحيد، ولا تؤدي الى النتائج المرغوبة إذا ما كانت مدعومة ببرامج تدريبيَّة سلوكيَّة، تمارسها الأسرة والمجتمع والأصدقاء والإعلام والمدرسة والروضة، كلها تتكاتف من أجل بلوغ الهدف في التعاطي مع التوحد بالشكل الصحيح.
وأخيراً ومن خلالكم أوجه دعوة لكل جهة تجد في نفسها الكفاءة العلميَّة بخصوص أطفال التوحد، وأنا على استعداد أنْ أنجز فيلماً وثائقياً عنها وكذلك حلقة خاصة في برنامجي الجديد (أبعاد معرفيَّة).