العلاج بالشعر
ترجمة: عبود الجابري
على الرغم من أن استعمال الشعر علاجاً يبدو حديثاً نسبياً بين الفنون التعبيرية، فإنه قديم قدم التراتيل الأولى، التي كانت تنشد حول النار التي كان البشر البدائيون يوقدونها. التراتيل، الأغاني، القصيدة، هي ما يقوم بمداواة القلب والروح، وهذا ما تقترحه كلمة سايكولوجي. وفي الأسطورة يخبر أوسينوس بروميثوس أن “الكلمات هي طبيب العقول المريضة”. ورغم وجود ما يشير إلى وجود طبيب روماني يدعى سورانوس، في القرن الأول الميلادي، وقيامه بوصف الشعر والدراما لمعالجة مرضاه، إلا أن الرابط بين الشعر والطب لم يتم توثيقه بشكل جيد. ومن المهم التنويه إلى أن اول مستشفى في المستعمرة الأمريكية للعناية بالأمراض العقليّة كانت مستشفى بنسلفانيا، التي أنشأها بنجامين فرانكلين عام 1751، ووظف العديد من الأساليب في معالجة المرضى، ومن ضمنها القراءة والكتابة.
العلاج بالقراءة
يبدو مصطلح العلاج بالقراءة أكثر شيوعاً من مصطلح العلاج بالشعر الذي أصبح مألوفاً في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، والذي يدلُّ معناهُ الحرفي على استعمال الأدب في النفع أو المساعدة. كتب فرويد مرةً: “لستُ أنا، بل هو الشاعر الذي اكتشف اللاوعي”، وقال أيضاً: “العقل عضو لصناعة الشعر”. ثم كتب عدد من الباحثين عن مقدار العلم الذي يُجنى من دراسة الشعراء، ويعد إيلي جريفر، وهو صيدلاني ومحام، أول من بدأ العلاج بالشعر في مستشفى مقاطعة كريدمور في نيويورك، بمساعدة مجموعة من الاختصاصيين النفسيين، وقام أحد الذين آزروا تجربته؛ وهو الدكتور جاك ليدي بطباعة أول كتاب ـ في هذا المجال ـ أسماه “العلاج بالشعر” وذلك عام 1969، وقد تضمن الكتاب مقالات كتبها العديد من الروّاد في هذا المجال. وشيئاً فشيئاً أخذ الناس يقومون بمساعدة ذوي الاختصاص لتمكينهم من إدخال الشعر علاجاً في المجموعات ومن بين هؤلاء كان آرثر ليرنر البروفيسور الذي قام بتأسيس معهد المعالجة بالشعر في سبعينيات القرن الماضي في الساحل الغربي، وألَّف كتاب “الشعر في التجارب العلاجيّة”.
وفي عام 1980 عقد لقاء لجميع الناشطين، في هذا المجال في أنحاء البلاد لصوغ دليل للتدريب، ومنح الشهادات في مجال العلاج بالشعر، وتأسيس ما يسمى ـ الآن ـ “الجمعية الوطنيّة للمعالجة بالشعر”.
عناصر الشفاء بالشعر:
«الشعر هو استجابةُ ذواتنا الأعمق للنشوة، والألم المبرح، والعناق الحميم مع غموض الحياة.. إنّه أغنية أو تنهيدة أو بكاء، وغالباً ما يكون جميعَ هذه العناصر” / - (تشارلز أنجوف، 1994)
“يكتسب الشعر صفته الإنسانيّة لأنّه يقوم بربط الإنسان بجوهر خبراته: إنّها كلمات الآخر التي لا يمكن لأيِّ شكل من أشكال التوصيل أن يقوم بها. الشعر كذلك يخفف غلواء العزلة التي نعيشها جميعاً” / - (ميرا كوهين ليفينكستون)
«أعتقد أن القصيدة بناء عاطفي فكري يهدف إلى ملامسة عقل القارئ، وذلك يعني أنّها تهدف إلى أن يتم اختبارها من قبل القارئ، وأعتقد أنَّ القصيدة نافذة تصل بين أكثر من شخص يعيشون في غرفة مظلمة، وأعتقد أيضاً أن القصيدة ضجيج، وهذا الضجيج يتخذ شكلاً معيناً” / - (ستيفن دوبينز، 1997)
الاقتباسات أعلاه تشمل بعض سمات العلاج بالشعر. أغلب الذين انتموا إلى المجموعات العلاجيّة لم يكتبوا الشعر أبداً، وإن فعلوا فإنّهم يشعرون أنّهم غير ناجحين، وتنتابهم رغبة في مغادرة المجموعة. من المهم التوضيح أنّه ليس عليهم أنْ يكتبوا: أنّهم في حاجة فقط، للانضمام إلى المناقشات عندما يكونون جاهزين. ومن المهم أيضاً، الإشارة إلى أنَّ المجموعة ليست صفّاً مدرسياً، وليس هناك درجات أو إعادة تحرير، إلّا إذا أرادوا هم أنْ يفعلوا ذلك بنصوصهم التي هي فضاء غير خاضع للنقد، وإنّما وسيلةٌ لاكتشاف الذات والتعبير عنها، وبعد ذلك كانت البداية.
في كلِّ جلسةٍ يتمُّ عرض قصيدة، ويعتمدُ اختيار عناصر القصيدة على علمِ العلاج بالموسيقى الذي يستمدُّ تأثيره من العناصر الموسيقيّة، وذلك يعني أنَّ انفعالات القصيدة هي ذاتها التي يُرجى منها أن تستولي على مزاج المجموعة. فاذا كانت الكآبة هي المزاج المهيمن فإنَّ قصيدة عن الكآبة ستكون مفيدة، ما دامت فيها أبيات تعكس الأمل والتفاؤل: “وتبدو هذه القاعدة مريحة، لأنّها تسمح للمشاركين أن يدركوا أنّهم لا يعانون بمفردهم، وإنّما هناك من يتفهَّم معاناتهم، لأنَّه خَبِر المعاناة وكتب عنها، وقام بمشاركتهم إحساسهم باليأس”. ويستطيع المشرف أن يبيِّنَ سبباً لاختيار القصيدة لذلك اليوم، أو ينتظر حتى يقوم أحدهم بقراءتها، ثم يفسح المجال للمجموعة كي تقرّر أن كانت تتضمَّن شيئاً يمكنهم التفاعل معه. غالباً ما تتمُّ قراءة القصيدة مرّتين من قبل واحد أو اثنين من الأعضاء، ما يجعل الإيقاع ـ موسيقى القصيدة ـ يتغلغل إلى عقولهم، ويقوم بإحلالِ التركيز بديلاً عن الفوضى في التفكير.
عادةً ما يتبع القراءة صمتٌ يقوم خلاله المشاركون باستكشاف حقل الحروف كما لو أنَّهُ بحيرةٌ أو مرجٌ أخضر، في محاولةٍ لاستيعاب المشهد. الصمت يمنح المشاركين فرصةً لتنفُّس الصُعداء، مثلما يمنحُهم فرصةً لمناقشة الأبيات، والصور الشعريَّة التي تلفت انتباههم، وربما استصرختْهم كلمةٌ واحدة، وربما لم تنَل القصيدة إعجابهم مطلقاً. وقد يثيرهم غموض القصيدة، فهم يحبّون أن يسألوا عمّا تعنيه، ونحاول الاستجابة لتساؤلاتهم من خلال توضيح الاحتمالات الممكنة وليس بالشرح المباشر لها، وهذه الاحتمالات تصبح طريقاً واسعاً لرؤية الأشياء بطريقة جديدة، حتى مع المأزق الذي يمكن أن تضعهم فيه. ومهما كان لهم أو لم يكن من رأي، فإنّهم يسمعون ويرضون بما سمعوا ولا يصدرون الأحكام مطلقاً.
ويجب أن لا تحتوي القصيدة على قافية، ولكن يجب أن تحتوي على إيقاع، وقد اكتشفتُ أنَّ الناس عندما يتحدثون من قلوبهم، غالباً ما يكونُ هناك إيقاع رقيق في ثنايا كلامهم: “الإيقاع يأتي في أشكال متعددة في القصيدة، وغالباً ما يحمل معه مشاعر مكبوحة متداخلة مع فوضى الأحداث الداخليّة، والخارجيّة، في التجربة الشخصيّة”. وغالباً ما يسهم الإيقاع في حركة المشاركين من مكان إلى آخر، ويزيد من خشيتهم من الوقوع في المشاعر التي تسبّب لهم التعب أو الألم أو السلوك الانسحابي. غالباً ما يزيل الإيقاع التوترَ عن المجموعة، ويتأتى الإيقاع من وقع الكلمات، وتكرار أصوات معينة، ذلك التكرار الذي يأخذ شكل المنوّم المغناطيسي الذي يساعد في خلق “المنطقة السريّة”، “الجسر إلى اللاوعي”، حيث المكان الذي تنبع منه القصيدة. وكلما كانت هناك استجابة من المشاركين للجانب الرقيق في القصيدة كانت رؤيتهم لها أعمق، ما يجعلهم يحادثون بعضهم بعضاً، وذلك ما يؤدي إلى كسر العزلة، فالقصيدة لا تأخذهم إلى التَماسّ مع موسيقاهم الداخليّة، وإنما تعزّز اتّصالهم ببعضهم بعضاً كذلك.
بييري ج. لونجو
طبيبة وشاعرة أمريكيّة، تمتهن المعالجة بالشعر، أصدرت ثلاث مجموعات شعريّة :
- استنزاف الأرض
- عزلة الريح.
- لا شيء خلفنا سوى السماء
حازت على جائزة سانتا باربارا للشعر عام 2007 - 2009
- تشغل منصب رئيسة الجمعية الدوليّة للعلاج بالشعر.