تحت الجسر الإيطالي

ثقافة 2023/08/23
...

 حبيب السامر

صار الموعد الليلي لأصدقاء اتّفقوا على برنامج محدَّد، ثابتاً في توقيتاته، وأغلب الوقت يكون مع تباشير الولادة الأولى لنهار جديد، لينعموا بهواءٍ نقيٍّ على ضفاف شط العرب، مستغلين الشارع العريض ببلاطاته الرصاصيَّة وسياجه الذي تتكئ عليه أجساد المارة، وهم يتأملون حركة الناس التي تتزايد كلما زحف الوقت نحو نهار آخر.
تسحرهم الأضوية الخافتة وهي ترسم أشكالا مختلفة على مويجات الشط، ومنحنى الجسر الإيطالي وسط تعامد الكتل الخرسانية الطويلة الغاطسة في العمق، لا أعرف كلما ذكرت اسم جسر قفز إلى رأسي (القيد): «قيدُكَ أيُّها النهرُ، هذا الجسر».
أحياناً، وبفعل طبيعتها الجنوبيّة الشرقيّة وطقسها المتقلّب يقتحم على المتجولين في هذه الساعات (الشرجي) كما يسمّونه في البصرة، يكاد يخنقهم للرطوبة العالية بفعل الرياح الجنوبيّة الشرقيّة التي تهب من البحر، فيما توزَّع آخرون بين المصاطب وهم يهمون باللحاق بسياراتهم المركونة بموازاة الشارع الطويل.
بعد أن ينجز أحد أصدقاء مجموعة التمشي والذين لا يتعدون أصابع اليد الواحدة عمله، ليعاود صباحا بالذهاب إلى العشار برحلة مكوكية مع الأمكنة التي يتعامل معها، هكذا أتم (صباح) آخر نقرة على حاسبته الصغيرة ليقفل - كما يقول- حسابات اليوم يبدأ بالاتصال بالمجموعة لتتهيأ للبدء ببرنامجها الرياضي الذي اعتادوا عليه منذ وقت طويل.
في هذا الوقت المتأخر، وبعد أن يركن سيارته تحت الجسر، قرب مطعم شط العرب يبدأ الأصدقاء الرحلة الجديدة في برنامجهم اليومي، الذي يتشعّب خلاله الحديث عن الذكريات والأفكار المتعاقبة في رسم خطوات الحياة وكيف كافح في طفولته وهو يتذكر التفاصيل الدقيقة التي يسردها بطريقته المحبّبة، ونحن نلهث كثيراً بفعل خطواتنا المتسارعة نتحسس جبهتنا المتعرِّقة، كلما توغلنا بين الناس المتوزعين بشكل عشوائي على طول الرصيف، أطفال يمارسون كرة القدم مع أسرهم وسرعان ما تجد الكرة بين أقدام المارة بعد رميها بعفويّة، هناك أسر افترشت بساطا قرب السياج الفضي الذي وضع بعناية باهرة، ليتناولوا وجبة خفيفة على الضفاف، كان أحدهم يفتح كاميرة موبايله ليتحدث مع حبيبته التي تتحسّر على هذه الأجواء ويعدها بأن تكون هنا في أقرب فرصة، الرجل الكبير على كرسيه المتحرّك يشارك أسرته بهجة الحضور وهو يحضن حفيدته، فيما كان (محسن) يضع مكبرة الصوت بالقرب من مجسّم سندباد الخليجي وهو يضع قدمه على كرة قدم كبيرة، يمارس طقسه في الغناء، تتعالى أنغام عبدالكريم عبدالقادر وعبدالحليم حافظ فيما يطلب منه صديقنا (حسن) أغنية حاسبينك التي أداها بإتقان جميل.
مع تقادم الوقت، بدا المكان خالياً إلا من بعض الباعة بعرباتهم الصغيرة وأحمالهم الخفيفة، ليتركوا النهار يشرق على هذا الشارع، كي يغتسل برذاذ الماء المرشوش من حركة البلم العشاري وهو يتجول في الشط.
هكذا تعتمد الكتابة في تلخيص وقائع معيشة، وتدوين الحركات
اليوميّة بطريقة (الفلاش باك) لتلخيص ما يدور من أحداث كي تعيش مع أعمارنا، وتحرّك الساكن في
أعماقنا.