لويس ماسينيون.. كتاباتٌ لا تُنسى
ترجمة وتحرير: كامل عويد العامري
لويس ماسينيون (1883 - 1962) هو أعظم مستشرق فرنسي في القرن العشرين. لا تزال معرفته بالعالم الإسلامي، والعقائد، والأدب الصوفي والشعري والشعبي لدول الإسلام حتى يومنا هذا دليلا لا غنى عنه لفهم الصراعات التي تواجه فيها الدول الغربيَّة المطالب الإسلاميَّة.
كان ماسينيون رائدا في مجالات الفن والروحانيّة المسيحية. وكان لاعباً رئيسيّاً في سياسة فرنسا للتآخي بين الشعوب وتأثيرها في العالم في ظل ثلاث جمهوريات. فهو مسيحي بلا منازع، صديق على نحو مطلق للفقراء والمستبعدين، ناشط ومعلم، عهد بأغنى أفكاره إلى مئات الكتابات التي نشرت على مدار أكثر من نصف قرن. هنا نلتقي بالشخصيات الأساسيّة في تأمله: من شارل دي فوكو إلى غاندي، من مرشده الداخلي الحلاج إلى التصوف الشيعي، من جان دارك إلى بول كلوديل أو ج. هويسمانز. يظهر ماسينيون كشاهد رئيس على الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسيّة، ورجل ملتزم بنضال الشعوب من أجل الاستقلال، تابع مخلص لدين إبراهيم... جمعت هذه الكتابات معا لأول مرة في إصدار نقدي، بقراءة متجددة للعمل والفكر الذي لا يزال محل اهتمام حتى اليوم. تحت إشراف كريستيان جامبيه، وتحرير فرانسوا أنجيلييه، وفرانسوا ليفونيت، وسعاد عيادة. عن دار روبير لافون، 2009.
المجلد الأول 1026 صفحة: مقدمة - مراجع السيرة الذاتية - زيارة الغريب - الشهود والشفعاء - الشاهد الأساسي: الحلّاج - ماسنيون السياسي: الباحث والصوفي - التدريسي في كوليج دو فرانس.
المجلد الثاني 1025 صفحة: الفكر الإسلامي والمقاربات المسيحيّة - امتياز اللغات السامية - مرآة القلب وليلة العقل - الطوبوغرافيات الروحيّة - الأخرويات المسلّمة والمذهب الشيعي - الأشكال الرمزيّة في أرض الإسلام - الإيمان بأبعاد العالم - ببليوغرافيا لويس ماسينيون - جدول التوافق.
**
لويس ماسينيون هو أكثر الكتاب الفرنسيين الذين لا يمكن تصنيفهم في القرن العشرين. هل كان أعظم أسلامي فرنسا؟، لو كان كذلك، فلن يحدد ذلك بالضبط معنى لحياته أو قيمة لكتاباته. منذ يوم عودته إلى العقيدة الكاثوليكيّة في طفولته، توقف ماسينيون على أن يكون الأمل الأكثر إشراقًا لعلم الإسلام الفرنسي، وعالم الآثار، والجغرافي، واللغوي، ومؤرخ للدين الإسلامي. فلم يكن مستشرقاً وزارياً، وتاجر تحف محترفاً، بل كان مندفعا لمعرفة الإسلام برمته، وقبل كل شيء الرغبة في فهم دين قريب جدًا من دينه، سيسعى لويس ماسينيون، طوال حياته، لفهم إبراهيم. ما هي العواقب اللا متناهية لفعل إيمان هذا الغريب، لماذا إله واحد، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهو إله إسماعيل، وثلاثة الوحي؟، الإسلام؟، تكمن أهمية لويس ماسينيون اليوم في توقعه واختباره وشرح ما هو أمامنا، هنا والآن، حاضر، في ما يعلن عن مستقبلنا، في مثل هذه اللحظة من التاريخ حيث يصبح كل تاريخ الإنسان رمزًا للتاريخ غير المرئي: القرن القادم سيكون إبراهيمياً. ونفهم: مصالحة فروع الديانة التوحيديّة الثلاثة، العبادة “النقية”، كما تشير “سورة الإخلاص” في القرآن، أو ربما لن يحدث. وإذا لم تحدث، فإنَّ صعود الإسلام إلى واجهة تاريخ العالم، هذه اللحظة الإسلامية في التاريخ التي ننتمي إليها لن يفهمها اليهود ولا المسيحيّة. وهذه أُخطرت لتكون مخلصة لنفسها (أوروبا المسيحية يرثى لها، عندما تخجل من هويتها)، فهل ستكون قادرة على مواجهة تحدي الإسلام: لتتكفل السؤال الإبراهيمي؟، عن الحب والقانون؟، هل ستكون وفية لشهادتها؟، هل سيعترف الشعب اليهودي بمريم اليهودية بامتياز؟، هل سيكون مخلصًا لتوقعاته حول المسيح، والتي هي حجر الأساس للبشريّة جمعاء؟، إن الإسلام من خلال محبّته ليسوع ومريم، يدعو إسرائيل إلى الاعتراف بنفسها على أنّها شعب المسيح، الذي هو مسيح جميع أبناء إبراهيم. فعلى يد النبي محمد وعلى يد فاطمة، الضحية المثالية للظلم، القريبة جدًا من عذراء الأحزان، من خلال صرخة العدالة التي سترفع يوم القيامة باسم إسماعيل، المنبوذ، المتصالح مع إسحاق في جنازة إبراهيم، يدعو الإسلام المسيحية إلى التخلي عن علمنتها، ووثنيتها الفنية، لتعيش “سامية روحية”.
“لويس ماسينيون هو الذي، في كل الأدب الغربي في القرن العشرين، كان الوحيد - مع كلوديل - الذي طرح السؤال السامي بقدر كبير من الوضوح: للتأكيد من أن اللغز السامي لم يعد مكبوتًا، بل افترض أن التوليفات الأكاديمية، إذ تشكل روما وأثينا والقدس ثلاثي غير هجومي، كانت روما فيه ملاذا لذوي النوايا الحسنة، تستسلم - التوليفات- لما يمقته العالم: اختيار الله السامي. إما ذلك، أو الحرب. وماسينيون، الذي يعرف ما هي الحرب، لا يريد الحرب. يبين لنا طريق الأخوة”.
كان نشر “آلام الحلاج” علامة بارزة في تاريخ العلوم الدينيّة من حيث موضوعها وأسلوبها. إنّها سيرة قداسة، سيرة قديس معذب بسبب إيمانه، وهي سيرة بغداد الحقيقيّة، ومن ثمَّ، من دائرة إلى دائرة أوسع، هي طبوغرافيا الإسلام كله، في زمن أزماته كما في الفضاء الداخلي لمقترحه الإبراهيمي، وللحركة التي توجهه نحو الدينونة.
إنَّ القديس الذي جُلِد، وصلب، وأحرق، وأدين في الدنيا وفي الآخرة، هذا - الحلّاج -، الذي حكم عليه بالموت الفظيع بحكم شرعي وشرع صادر عن محكمة من الظلمة وفقهاء لا يمتلكون وعياً، هو رمز حالتنا الإنسانيّة، عندما تواجه، بلا تحفظ، جوهرها الأكثر حميميَّة ودراماها. إذا كان الحلاج، مثل سقراط، يسألنا جميعًا، ويضعنا جميعًا في مواجهة الحائط، يجب أن نرى السبب ليس في تفرّد وعظه، ولكن في عالميّة تجربته.
والحالة هذه، إنَّ القيمة العالميّة لـ “منحنى الحياة” عند الحلاج، كان لويس ماسينيون قد تعرّف عليها من خلال دراما حياته الخاصة، والتي كان قادرًا على التعبير عنها تحت حجاب رموز الحلاج: كيف تواجه دينونة الله؟ يولد كل إنسان ليُحاكم، والعدل أمر لا مفر منه مثل الحقيقة. “أنا الحقيقة” صرخة الحلّاج، تجديفه العلني، تفكيك السريّة التي يحتفظ بها الصوفيون في النهج الصوفي، تعني، بلا شك، أنه لا يوجد في كل “أنا” سوى الوجود المطلق للحقيقة التي معناها “الرغبة الجوهريّة”.
ولكن أن تُستدعى بهذه الرغبة اللا متناهية التي يسميها الناس الله هو أيضًا استدعاء من عدالة لا نملك أي شيء يُبررنا أمامها، ولا حتى أفعال الإيمان، طالما أنّنا لا نجرّب مفارقة الدينونة الدمويّة: الخضوع للشرع هو خيانته، والتعدّي عليه طاعته على حساب الحياة الأبديّة. إنَّ للخلاص والدينونة سرّاً مشتركاً، أصلاً مشتركاً، ليس في الخطيئة وحدها، بل في السمو الإلهي، الذي هو أصل سمو الشرارة الإلهيّة في الإنسان، واستسلامه غير المشروط للحقيقة.
ليس بالوسع أن يكون هناك شك في أن يكون المرء موفقاً في حياته، ومن يسعى إلى حياته يفقدها، لكن لا يستطيع المرء أن ينقذ نفسه من الشرع: من يحميني من الله؟ ليس ذنبًا لا يوصف، كما لدى لوثر، أو لدى أوغسطين سابقا، ولكنها مأساة عدالة من المستحيل إرضائها إلا بالتضحية.
لا يدوم بناء بشري، ولا يسود شرف، ولا يبقى عمل، عندما يكون سر العدالة على المحك. لذلك لم يكن تأثير نشر سيرة القداسة الحلَّاجيَّة نقطة تحول في الدراسات الإسلامية فحسب، بل ضربٌ أيضًا على وتر حساس داخل الجميع، وغير، وبدءاً من الشرق، وعي بعض الغربيين، الذين لم يعمهم نجاح التكنولوجيا وتقدمها. والهيمنة على العالم. لقد نشر ماسينيون، بعد الحرب العظمى، كتاب حياتنا تحت غطاء كتاب شاهد مجهول - كتاب جاهز بالفعل عندما ألقي مؤلفه في المذبحة المروعة - يعلمنا أنّه لا توجد هدنة لأيٍّ منا: أن “الحرب المقدسة” هي في داخلنا، الحرب التي تشنها الحقيقة والعدالة علينا، والتي لا مفرَ منها. لقد “حصل الكابتن دريفوس على عفوه، وأود أن أحصل على عفوي! كما كتب، من حيث الجوهر، ليون بلو في مذكراته. لا يهتم ماسينيون مثل الروائي ليون بلوي، ومثل الشاعر شارل بيغي، ومثل بودلير، بإعادة التأهيل، لأنّه يكتشف، بفضل القديس المصلوب في بغداد، أنّنا لا نستطيع أن نكون جديرين بوضعنا الإنساني من دون أن نواجه، في داخلنا، طلب الغريب: “مرحباً بي، للموت كلُّ ما سيهلك ما عدا وجهي”
لا يختلف القرن العشرون في هذا عن غيره إلّا في مدى الظلم والجرائم. لم ننتهِ من النواهي التي وضعها ماسينيون أمام أعيننا المتسامحة تجاه أنفسنا. كان كانط يعتقد، على أمل عصر الأنوار، أن هذا الإنسان كان هو الذي يجب أن “يستحق السعادة”، وسابقاً كان أن يجعل من نفسه يستحق ذلك، وفقًا لكانط، شيئا مستحيلا، باستثناء الأقدام باحترام القانون الأخلاقي. غير أن ماسينيون يذكر أن هذه الزمن لم يعد موجودا. لم يعد الأمر يتعلق بجعل المرء جديرًا بالسعادة، لم يعد يبقى شيء، ولا حتى السعادة التي تسمح للإنسان الملتزم بالقانون أن يأمل فيها، لم يعد يبقى شيء من انسجام اليونانيين الجميل، الذي انتقل من أرسطو إلى غوته.
إنَّ المسيحيَّة، والإسلام، واليهوديَّة، والعالم السامي، هم من هذا القبيل يقولون، بطريقة عابرة للتاريخ، إن القانون الجديد لمأساتنا: ليس السعادة، ولكن الاستجابة المستحيلة للحتميّة التي لا يمكن فهمها. نحن هنا. الضمير غير السعيد، والعدمية، وازدراء المضيف والكلام المعطى، والسياسات الإجراميّة أو الإداريّة ببساطة، كل هذا لا قدرة له لمحو النواهي التي نتراجع أمامها رعبا.
لم يكن ماسينيون كان أكثر علمًا من معلميه. كان يقرأ كل شيء، ويعرف كل شيء، لكن ليفي- بروفنسال، وإغناس جولدتسيهر، وريجي بلاشير، ليسوا منه بأقل معرفة. إذ يخضع فكر ماسينيون لمعايير مثل هذه المعرفة، لكن موقفه الذاتي مختلف. إنّه ليس مستشرقًا ليضيع في بلاد غريبة عن ميدانه، وليس كاتبًا مسيحيًا، على هامش عمل علمي، ليشيد ببعض الشخصيات المسيحية البارزة، وليس زائرًا جماليًا للشعراء والحرفيين، إنه يستخدم جميع المدونات في آن واحد، من دراسة أحادية، ومنشور، ومقالة ببليوغرافية، واصلاح عمل أو عِلْم يَدْرِس فِي الْحَضَارَة الْقَدِيمَة، على جميع الأسس التي يقع فيها حدث الحقيقة والعدالة تشير إلى وجهتنا عبر التاريخ، لتقييم هذا الموقع وهذه العلامة، فيفسّرها، ويسترد قوتها الأصلية، ويضمّها إلى أطلس العالم الخفي الذي يصبح مرئيًا: من السوق القديم إلى أفسس، ومن المدائن (طيسفون) إلى بغداد، ومن فاس وغرناطة إلى دمياط، من القاهرة إلى بومباي، ومن دومريمي إلى ضفاف نهر الغانج، ومن القدس إلى القدس.
لقد سارع عدد من الكتاب (بدءاً من بيري وكلوديل حتى جينيه واراغون، ومن غابرييل بونور إلى صلاح ستيتيه) وعدد من الفلاسفة (غابرييل مارسيل وجاك ماريتين)، فضلا عن آخرين، بالتعرّف على هذا العمل- كتاب الحلّاج-، كان هناك تقارب وفهم حيوي للحياة الداخلية والإيمان بالإسلام لدرجة أن هذه المعرفة تحولت، من خلال تحويل دروس الإسلام إلى قوى إبداعيّة، إلى ذكاء مثمر للغربيين، ليس في الطريقة التي تغذي بها الغرائبيّة المتخيل، ولكن في الكشف عن أنفسنا لأنفسنا، من خلال وسائل غير متوقعة للترحيب بالغريب.
من دون أن يكون فيلسوفًا على الأقل، ومن دون أن يطلق على نفسه اسم كاتب أو شاعر مطلقًا، فهو من خلال احترامه الدائم لأخلاقيات العالم، صحَّح لويس ماسينيون أكثر الأسئلة حساسيّة في الفلسفة، وحقق شيئًا كان يبدو مستحيلًا: لقد صاغ مادة البحث في صيغة المفرد لغة الكاتب العظيم. هذا هو السبب الأول الذي جعل محرري الكتاب اقتراح مجموعة واسعة النطاق من الكتابات نسبيًا بوصفها “لا تُنسى”، وتستحق الذاكرة التي تحافظ على الأعمال القادرة على التغيير، والعودة إليها ثانية، وتعليم الأجيال الجديدة، والتي تحافظ على كلمة حيث لا يموت معناها بزوال صلاحية عناصرها الزائلة، بل تعيش مرة أخرى في أعماق كل قارئ جديد.
لا تُنسى هي الكلمة التي تغير البشر بعد أن صمتت زمنا طويلا، لأنَّ القناعة بها سليمة، ودرسها يمرُّ عبر التاريخ، ومن يكتشفها، يصاب بالقلق مما لا يعرفه وما يشاء، يتغذى عليها. ولن يعد كما كان قبل سماعها. إذا كان هذا هو تعريف الكلاسيكي، فإن لويس ماسينيون هو أحد الكلاسيكيين الذي اصطفاه لنا القرن إرثا، ومن الواجب أن تكون أعماله في متناول أولئك الذين ستتاح لهم فرصة لقاء غير متوقع.
إنَّ لويس ماسينيون روح علميّة. على الرغم من أنه يمكن قراءة جميع أعماله كردٍّ على إرنست رينان، إلا أنه يأخذ من رينان أخلاقيات العلم. وسيكتشف القارئ ما يمكن أن يسمى مادية ماسينيون، وكان تشيسترتون يقول: “كل الأديان مادية”. إنّه مؤرخ للمواد، ومن الأفضل أن يكون مفسراً للصيغ. وهو أيضًا لغوي. لم يتدخل فقط في تدريس اللغة العربية، أو في النقاشات الناشئة عن اكتشاف العائلات اللغوية، حيث لعبت الهندو أوروبية الدور الذي نعرفه، بفضل بنفنيست ودوميزيل، بعد انطوان مييه، لكنه أكد أنها مسألة اللغة، سواء كانت مكتوبة أو شائعة، هذا هو الأساس الفعّال لحياة العقل. وتشهد دراساته حول اللغات السامية، المعاصرة مع مارسيل كوهين وورثة سوسور، من دون إغفال أهمية علم الأصوات، على مطلب لغوي ملح. إن الروح العلمية، كما لاحظ باشلار، وكما طور بوبر نظريته من خلالها، لا تتمثل في تطوير ما نعرفه بالفعل، ولكن في تسليط الضوء على ما هو زائغ، وفريد، ومهم مما لا نعرفه بعد، ليس فقط الحلاج، ولكن جميع الأسماء الأخرى من سلمان الفارسي إلى الشعراء الصوفيين المنشدين في الأحياء الفقيرة في تونس، من ميثاق نجران حتى الشركات الحرفية تشهد على ذلك الشعور النادر بالجديد، والغريب، والخلل، ومن ثم الحقيقي، وهو الروح العلمية بأكملها. ولكنها روح صارمة، وبدعم من هذه الصرامة، فإنّ تحقيقه في أرض “المتصوفة”، يبدأ بنقد شديد لكلمة “صوفي”. ويقبل لويس ماسينيون شهادة الموصومين أو القديسين أو أصحاب البصيرة أو أولئك الذين يدركون تجريبياً صلة معينة بالله، لكنه يخضع هذه الشهادة إلى غربال التفسير العلمي. ولا يخشى مواجهة التخصصات المعاصرة، وسيكولوجية الأديان، وتاريخ «المشاعر الدينيّة»، فوفقًا لهنري بريموند، إنه يفحص فيها «الأسلوب» الأدبي... ومن هنا يرفض توسيع المفهوم الصوفي ليشمل مجموعة كاملة من المشاعر والتجارب الغامضة والعلمانية، ولكن وهذا لا يمنعه، من إعطاء معنى دقيق للتصوف، الذي يقوده إلى تفسير النصوص. الذي جعله يقسم روحانيات الإسلام إلى عائلتين كبيرتين من الفكر. من ناحية، اعتبر أولئك الذين اعتبرهم أتباعًا لبعض “الوحدانية الوجودية”، ومن ناحية، أتباع “وحدانية الشهادة”. و يبدو أن هذا المصطلح “الأحادية”، استخدمه بالمعنى العام في عصره لتأهيل أي نظام فلسفي يكون فيه التسلسل الهرمي للوجود، وفقًا لترتيب ميتافيزيقي وفيزيائي دقيق، ينبع من مبدأ واحد، ولكن منه يوسس هذا الانبثاق استمرارية، بل محايثة بين المبدأ وانبثاقه أو تعبيراته.
يساعدنا ماسينيون على تحرير أنفسنا من التصور السياسي للعالم، وإقناعنا بقوة الإيمان الشديدة غير العنيفة في العدالة. فقط كامو، ومورياك، في عصره، من استوعب هذه الحقيقة المتشددة. وجعلها غاندي، مع الشاعر إقبال، رمزًا حيًا.
عندما يتحدث ماسينيون وفقًا للتاريخ، يتلاشى كل شيء في الماضي المشترك. وفقًا للمنظور العابر للتاريخ، كل واحد منا هو شخص يخلق بحرية مصيرًا له قيمة المرسوم. يتحد زمن كل واحد بزمن الجميع بالمشاركة وليس بالمضاهاة. لقد قرر لويس ماسينيون، أن يكون هذا الدرس المتعلق بالاحتمالية الإلهية والحرية في نكران الذات، أنه سيكون مقصد العالم ومبدأ رجل الإيمان. لا يحررنا ماسينيون من المعرفة الميتة فحسب، بل يحررنا أيضًا من أرواحنا الميتة. في هذه الأوقات العصيبة عندما تكون الفلسفة صامتة، كما لم تكن منذ خمسة وعشرين قرنا من قبل، تفسح المجال لأصوات المصلحة الذاتية، والرغبة في البقاء والقدرة المطلقة، التي من غيرها لم يكن أكثر ضرورة؟