الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الأهليَّة الدستوريَّة
د. محمد يوسف السعدي
تتنوع الآثار المترتبة على القرارات الصادرة عن القضاء الدستوري بنسبة كبيرة؛ فقد يكون للقرار أثر على عدد متفاوت من الأشخاص، حسبما إذا كان على الأطراف أو على الجميع )الاختصاص القائم على صفة الشخص)، أو تكون له آثار زمنية مختلفة (الاختصاص الزمني)، أو قد يحل أنواعاً مختلفة من القضايا (الاختصاص
الموضوعي).
كما يختلف الحكم بعدم الدستورية في آثاره باختلاف أطرافه، فتأثير الحكم على قاضي الموضوع يختلف عن تأثيره على الدعوى الدستورية بأطرافها المختلفة، وتأثيره على النص التشريعي يختلف عن تأثيره على المحكمة الدستورية ذاتها، وكذلك بالنسبة للغير ممن ليسوا أطرافاً في الدعوى الدستورية، ويمتد كذلك ليؤثر في الدولة ككل بحسبان أنها دولة قانونية تتأثر بجميع مظاهر الممارسة الدستورية بداخلها.
وفي بيان معنى الأثر، يمكن القول بأنَّ الأثر لغةً «بقية الشيء، وما بقي من رسم الشيء، وأثر السيف: ضربة السيف، وأثر الدار بقيتها، والجمع آثار وأثور، مثل سبب وأسباب».
وخرجت في إثره وفي أَثَره أي بعده، وأتّثرته وتأثّرته تتبعت أثره، ومنه قوله تعالى: ﴿فارتدّا على ءَاثارِهما قصصا﴾، أي: يتبعانه.
«والتأثير: إبقاء الأثر في الشيء، وأثّر في الشيء ترك فيه أثراً، والأثر أيضاً: ما نتج عن فعل الشيء».
أمّا في الاستعمال الفقهي؛ فلم يأتِ في كتب الفقه الإسلامي تعريفٌ مستقل لكلمة (أثر)، غير أنّهم استعملوا هذا المصطلح ويقصدون به الأثر المرويَّ من السنة عن الرسول الأكرم (ص) مرفوعاً، أو موقوفاً، أو غير ذلك.
وفي أحيان أخرى يستعملونه مضافاً، فيقولون: أثر العقد، وأثر الفسخ، وأثر النكاح الفاسد، وأثر الإقرار، وأثر اللعان ونحو ذلك، ويوردون الأثر حينما يكون الكلام عن الاستدلال بآثار الأقدام وما يتصل بها من القافلة، ويذكرون أثر كلٍ في المصطلح المضاف إليه.
ويطلق عليه قسم من الفقهاء: الأحكام، فيقولون أحكام النكاح مثلاً، يريدون: آثاره.
وقال الجرجاني: الأثر له ثلاثة معانٍ: («الأول: بمعنى النتيجة وهو الحاصل من شيء.
الثاني: بمعنى العلامة.
الثالث: بمعنى الجزء».
وقال المناوي: «الأثر حصول ما يدل على وجود الشيء والنتيجة».
ويتضح مما سلف: أن الأثر عند الفقهاء يعني النتيجة المترتبة على التصرف.
وعليه فإن الأثر هو: حاصل الشيء ونتيجته المترتبة عليه.
كما نقول: النتيجة المترتبة على إبرام العقد، أو النتيجة المترتبة على فسخه، أي أثر ذلك.
وأمّا تعريف الأثر في القانون؛ فهو «لا يختلف عنه في الفقه الإسلامي، حيث إنّه ورد مضافاً بمعنى النتيجة المترتبة على التصرف، فيقولون: أثر الحكم بعدم الدستورية، وأثر حكم الإلغاء، أي النتيجة المترتبة عليهما.
كما يستعمل الأثر في القانون موصوفاً، ومنه الأثر الفوري، والأثر الرجعي، والأثر المستمر، ولكلِّ تعريفُه الخاص به.
ومما يتقدم يتبين أنَّ مفهوم الأثر بالنسبة للحكم القضائي عامةً هو ما يترتب على هذا الحكم من نتائج، سواء تعلقت تلك النتائج بالقاضي نفسه الذي أصدره، أم بالخصوم في الدعوى التي صدر فيها، أم بالنسبة للغير ممن يمسّهم، سواء أكانوا أفراداً أم الدولة، إذا تعلق الحكم بأحد مؤسساتها.
أمّا عن أثر الحكم الصادر في الدعوى الدستورية؛ فتختلف نتائجه باختلاف نوعية الأحكام الصادرة في الدعوى، فالحكم الصادر برفض الدعوى الدستورية من الناحية الموضوعية، ومن ثم تقرير دستورية النص المطعون فيه، لا يُثير أيّ إشكالات قانونية في الواقع العملي؛ وذلك بسبب كونه امتدادا للأصل العام الذي ينبغي أن يتوافر لجميع النصوص القانونية واللائحية، تأكيداً على «قرينة الدستورية»، التي تُعدُّ لصيقة بجميع النصوص كأحد مفترضات الرقابة الدستورية، وكأحد أهم دعائم التقييد الذاتي للمحاكم الدستورية في مجال ممارستها لوظيفتها الرقابية، لكي تنأى بنفسها عن التوسع في اختصاصها الرقابي، وتعلن للكافة أنها عندما تتدخل لبحث دستورية نص معروض عليها إنما تتدخل لضرورة قصوى وحاجة ملحة، تفرضها عليها ضرورات حماية الدستور وحراسة الشرعية والذود عن الحقوق والحريات، ومن ثم فإن حكم رفض عدم الدستورية لا يُثير في ما يتعلق بآثاره إشكالات قانونية يمكن أن تمس بالحقوق والمراكز القانونية التي نشأت في ظل النص الذي أكدّت المحكمة الدستورية دستوريته.
فالحكم الصادر بدستورية النص التشريعي يؤدي إلى تأكيد وجود ذلك النص في النظام القانوني للدولة، وبالتالي ثباته واستقراره، وذلك باعتبار أنَّ المفترض في النصوص التشريعية موافقتها لأحكام الدستور، ولا يعدو الحكم الصادر برفض الطعن فيها بعدم الدستورية، إلاّ أن يكون تأكيداً لصحتها منذ إقرارها والعمل بها، ولا يمس ما جرى من تطبيق أحكامها في الماضي، أو ما يجري في المستقبل إذا كانت أحكامها لا تزال سارية، لذا فإنَّ الأثر الرجعي للحكم الصادر برفض الدعوى الدستورية لا يثير أيّ إشكاليات قانونية أو عملية بالنظر إلى أنه يؤكد صحة النصوص التشريعية المطعون فيها منذ مولدها.
وإذا كان الحكم الصادر برفض الدعوى لا يُثير أيّ مشكلات في الواقع العملي على نحو ما سبق، فإنَّ الحكم الصادر بعدم الدستورية على خلاف ذلك، يُثير الاختلافات ويؤدي إلى اضطراب في الأوضاع القانونية، التي صدرت في ظل هذا النص الذي حُكِم بعدم دستوريته، كما يُثير أيضاً الخلاف بين الفقه والقضاء حول طبيعة هذا الأثر والمدى الزمني الذي يمكن أن يرتد إليه، وتلك المشكلات التي يُثيرها حكم عدم الأهلية الدستورية كانت السبب الرئيس وراء اهتمام معظم كتابات الفقه الدستوري بهذا الحكم، سواء في ما يتعلق بحُجيته القانونية وما إذا كانت مطلقة أم نسبية، أم بالمدى الزمني لإعمال تلك الحُجّية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بماهية الأثر الذي يترتب على صدور حكم بعدم دستورية التشريع المعيب، وهل يتمثل هذا الأثر في إلغاء التشريع المعيب، أو أنّه يقف فقط عند حد مجرد الامتناع عن تطبيقه؟، وفي الإجابة عن ذلك يمكن القول بأنَّ ذلك الأثر يختلف باختلاف الأنظمة الدستورية التي تأخذ بنظام الرقابة القضائية اللاحقة على دستورية القوانين بين صور رئيسة ثلاث:
الصورة الأولى: هي الامتناع عن تطبيق النص المحكوم بعدم أهليته الدستورية في القضية المعروضة دون التعرض لوجود النص ذاته، فلا يبطل القانونَ أو يلغيه، أو يوقف نفاذه، وهو ما عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا واليابان، والإمارات العربية المتحدة.
وهذه الصورة تتفق بنحو كبير مع مقتضيات الأمن القانوني؛ لكونها تسهم بالمحافظة على الاستقرار الواجب للمراكز والعلاقات القانونية التي نشأت في ظل التشريع المحكوم بعدم أهليته الدستورية، ولا تنطوي على عنصر المفاجأة والمباغتة بالنسبة للأفراد المتمثلة في إلغاء السند القانوني لكثير من الحقوق المكتسبة في ظل تشريع نافذ اتضح فيما بعد كونه مُخالفاً للدستور.
الصورة الثانية: هي إلغاء النص المحكوم بعد دستوريته أو إبطاله، مما يؤدي إلى سقوط التشريع المقضيّ بعدم دستوريته بصورة نهائية من مجال التطبيق، وإزالة الأساس القانوني لكثير من الحقوق والعلاقات القانونية التي أقيمت في ظله وتعريضها للإهدار، إضافة إلى انطوائه على عنصر المفاجأة؛ لتسببه في عدم ثبات القواعد القانونية المنظمة لتصرفات الأفراد، وهذا هو الحال في إيطاليا، وألمانيا، وسويسرا، والعراق.
وفي بعض النظم القانونية كالنظام القانوني البلجيكي، فإنَّ ترتيب الأحكام الدستورية لآثارها قد يكون معلقاً على شرط عدم اتفاق أطراف الخصومة على إلغائها.
الصورة الثالثة: هي إلغاء قوة نفاذ النص المحكوم بعدم دستوريته؛ وذلك لأنّ الحكم بعدم الدستورية يتضمن قاعدة قانونية آمِرة تحظر على الجميع، وعلى جميع سلطات الدولة، وعلى جميع جهات القضاء، تطبيق القاعدة التشريعية التي نصّ عليها أو قررها أو تضمنها النص المحكوم بعدم دستوريته، وهذه الصورة تتشابه من ناحية أثرها العملي مع الصورة الثانية، وهو ما أخذ به المشرِّع المصري.
وفي واقع الحال، فإنَّ المشرِّع الذي يتبنى إقرار مثل هذا الأثر قد تنبه إلى خطورة آثار الحكم بعدم الأهلية الدستورية للتشريع، وما يمكن أن تنتجه من آثار سلبية على الواقع العملي، فاتخذ مسلكاً استطاع من خلاله الموازنة بين آثار تلك الأحكام ومتطلبات الأمن القانوني عندما قصر جزاءَ مخالفة التشريع لحكم الدستور على إلغاء قوة نفاذه من تاريخ صدور الحكم بعدم الدستورية، الأمر الذي يمثل ضمانةً لبقاء المراكز والعلاقات القانونية التي استقرت في ظل نفاذ ذلك التشريع، واستمرارها إلى أن يتم تعديله أو إلغاؤه من قبل السلطة المختصة.
بينما ذهبت دولٌ أخرى إلى وقف العمل بالقانون مدةً معينةً يجب على المشرِّع خلالها القيام بتعديل القانون المخالف، وإذا لم يقم بذلك كان النص ملغى، كما هو الحال في يوغسلافيا الاتحادية السابقة، وتشيكوسلوفاكيا، ومنها ما يترك للبرلمان أمر تقرير إلغاء القانون المخالف، أو رفض الحكم، ومن ذلك بولندا، ومنها ما يقرر أن يظل القانون المحكوم بعدم أهليته الدستورية نافذاً ومعمولاً به لفترة انتقالية تحددها المحكمة الدستورية؛ من أجل استقرار المعاملات وتفادي الفوضى القانونية، وهو الأمر المعترف به في قضاء المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية.