العملُ الدرامي.. بَيْنَ صخرةِ الواقع وأجنحةِ الخَيال

منصة 2023/08/29
...

  رضا المحمداوي

إذا كانت (الحقيقة) تعني تطابق الشيء مع ذاته إحتكاماً إلى العقل والوعي والإدراك، فإن كلمة (الخيال) وحيثما وردت في استخدامات حياتنا اليومية، فإنها تعني مباشرة كل ما يقع خارج حدود الواقع ودائرة الحياة الحقيقية، التي يحياها الإنسان وما يرتبط بذلك من تصورات أو أوهام أو أفكار أو أحلام أو إعتقادات.
ومن هنا يبدو الخيال بالنسبة لنا بانطلاقه وجموحه، قادراً على إكمال نواقص الواقع والإرتقاء أو التحليق به بأجنحة ذهنية من الواقع الملموس وحدوثه اليومي إلى منطق الخيال القائم أساساً على فرضية (الاحتمال) أو (التوقع)، حيث يمكن للمبدع أنْ يتناول مفردات الواقع ويعاملها أو يتعامل معها أو يعالجها، ومن ثم تقديمها (كما كانت) أو (كما يمكن ان تكون) أو(كما ينبغي لها أنْ تكون)، وهنا تسمو قيمة المبدع المنتج للعمل الفني في تعاملهِ المتجدد مع الواقع ومعطياتهِ إلى ما يمكن أنْ يفتح آفاقاً جديدة، انطلاقاً من ذلك الواقع المحدود، باعتبار أن الخيال هو (توقعات الحاضر ومراجعة الماضي وابتكار المستقبل) كما يذهب إلى ذلك: آرثرت ريبر في الموسوعة العلمية
الطبية.
بعض العلماء والمفكرين طرحوا فكرة أنَّ الإنسان يعيش ببُعدين، هما (التكيف) مع الواقع و(تجاوز)، ذلك الواقع في وقت واحد وهما بالأحرى بُعدٌ واحد مُركّب من (الواقع) و(الممكن) معاً، وهي الفرضية الأساسية التي صاغ منها المفكر الألماني هربرت ماركوز مصطلح أو مفهوم (الإنسان ذو البعد الواحد)، وأصدرَ كتاباً بالاسم نفسه.
والخيال هو العنصر الأساس والمهم في عملية الخلق الفني والدرامي على وجه الخصوص، فمن خلال (الخيال) أو (التخييل)، يتم إنشاء وتأسيس وتكوين حياة أخرى بشخصياتها وعوالمها وبيئاتها، وطرح معاناة تلك الشخصيات وطموحاتهم وهمومهم، واستثارة عواطفهم ومشاعرهم، ومحاولة نقل تلك التجربة بمشاعرها وعواطفها إلى المتلقين لغرض التأثيرعليهم.

البحث عن المعنى الفلسفي
ورغم أنَّ الخيال مَلَكَة فردية وفعل أو نشاط عقلي محض، ويكون منبعه الإلهام وحافزه التجدد والإبداع، إلاّ أنَّ عمل مبدع العمل الدرامي يشترك مع عمل المُفكّر أو الفيلسوف لأن عملهم الأصلي هو فكري بالدرجة الأولى، وهي النقطة المهمة التي يشترك فيها عمل منتج العمل الفني مع أفكار المُفكّر أو طروحات الفيلسوف. وعند نقطة الالتقاء هذه تتم مغادرة النظرة القاصرة والوعي السطحي المتمثل في تجاهل وعدم الإنتباه إلى الجذر الفلسفي للدراما الذي أسَّسهُ الأب الأول للدراما الفيلسوف أرسطو. فهل ثمة فلسفة أو فكر أو موقف فلسفي في لجة هذا الطوفان الدرامي، الذي وجدنا أنفسنا غارقين فيه، خصوصاً في العشرين عاماً الأخيرة بعد إكتساح الدبابة الأميركية المحتلة للصنم الصدامي في ساحة الفردوس؟! وكيف يتسنّى للمؤلف الدرامي العراقي أنْ يُقرّب النص الدرامي (المُتخَيْل) من الحياة والواقع العراقي الملتهب بجميع أسبابه ونتائجه وتداعياته المستمرة، التي لا تستقر على حال، ليكون مُعبّراً عن هموم الإنسان العراقي وتطلعاته وما يفرضهُ عليه ذلك الواقع من ضغوطات، وما تتركه طبيعة الحياة الصعبة والقاسية التي يحياها من آثار ونتائج؟
والفنون الدرامية بأجمعها والسينما والدراما التلفزيونية، على وجه الخصوص لا تحاكي الواقع الثابت والساكن والمستقر فقط، وإنما هي تحاكي الحياة بمعناها العام والشامل والحياة المتحركة بجميع احتمالاتها، وليست الحياة كما حدثتْ فقط، بل بكل التوقعات والافتراضات الحياتية- الإنسانية، والتي من الـ (ممكن) أو(احتمال) أنْ يكون الإنسان موجوداً فيها.
وبذلك فان المؤلفين وبواسطة نصوصهم المكتوبة على الورق، إنما يُقدِّمون (مثالا) واقعياً مفترضاً، فيه الكثير من القيم والمبادئ والأخلاق، بما يعتمل فيه أو ينطوي عليه من موقف فلسفي، ومن ثم تأتي بعد ذلك الاجتهادات والرؤى الفنية للمخرجين والفنانين المتجسدة على الشاشة، لتتيح لهم إمكانية تقديم الحياة وصورها الإنسانية (المُتخيلة) بأقرب صيغة ممكنة من صور الواقع نفسه والتي تحيلنا بدورها إلى مصطلح أو مفهوم الواقعية ومقارباتها في الدراما العراقية.
مقاربة واقعية
 حيث نجد التباين والاختلاف واضحاً  في درجة الإقتراب أو الإلتصاق أو الغوص في طبقات الواقع العراقي الصعب والمُعقّد، ذلك لأنَّ الأصل أو الجذر الحقيقي يكمن في قدرة أو إمكانية المؤلف الدرامي نفسه في كيفية رصدِهِ لذلك الواقع وزاوية النظر الخاصة وفي طريقة إلتقاطهِ وتناولهِ، ومن ثم بعد ذلك تأتي المعالجة الدرامية الإخراجية للموضوعة الإجتماعية المطروحة في العمل الدرامي، بوصفه نصاً مقروءاً سينتهي في المآل الأخير إلى سرد مرئي بنسخته المعروضة على الشاشة. ويجب الأخذ بنظر الاعتبار في هذا الجانب أنَّ الواقع العراقي خلال الـ 20 عاماً الأخيرة، التي أعقبتْ سقوط النظام الدكتاتوري بقوة الغزو الأميركي عام 2003 قد تغيرَّ كثيراً وتعرّضتْ البنية الإجتماعية إلى هزات وتصدعات عديدة وتدخلتْ عدة عوامل اقتصادية وسياسية ودينية وأمنية في إعادة تشكيل وبناء ذلك الواقع المضطرب، ورسم ملامحهِ الجديدة بكافة متغيراته بأسبابها المتعددة.
ومثلما تباينتْ وتعددت الأعمال الدرامية قبل عام 2003 في درجة تناولها وغوصها في أعماق الواقع العراقي وتركتْ بصماتها المميزة فيها، خاصةً في الدراما الإجتماعية مع ضرورة التذكير بمحدودية الإنتاج الدرامي وإرتباطه بجهة رسمية حكومية في تلك الحقبة التاريخية السابقة وفي ظل وجود الرقابة الحكومية الصارمة وإنحسار هامش الحرية المحدود، فإنه يصحُّ القول مع الأعمال الدرامية التي انتجتْ خلال العشرين عاماً، التي أعقبتْ سقوط النظام السابق، حيث تعددت القنوات المنتجة  للأعمال الدرامية مع الانفتاح العام والحرية المطلقة وانعدام الرقيب وغياب الفاحص الدرامي، لدى تلك القنوات والجهات الرسمية التي تخضع لها تلك القنوات، فكان أنْ اختلفت تلك القنوات في إنتاجها الدرامي، لا سيِّما في تركيزها على الموضوعات السياسية وقضايا الفساد المالي والإداري وكذلك الحال في إثارة القضايا الاجتماعية الحساسة، واستطاعتْ بعض الأعمال الكوميدية الساخرة، التي وظفتْ هذه الأفكار والموضوعات أن تحقق نجاحاً فنياً بنسب متفواتة.  
إلاّ أنَّ هذه النماذج والفروقات الدرامية بينها لا يعني عدم وجود بعض الأعمال الدرامية، التي تناولتْ أو عالجتْ موضوعات الواقع العراقي بشكل سطحي ولمْ تتعاملْ معها بشكل أو باسلوب فني مبتكر وجديد وخاصة ً ما يملكه نوع (الكوميديا السوداء) من آفاق ومديات مفتوحة.