جذورُ الشرِّ عند ايغلتون وارندت
حسن الكعبي
تزايد الاهتمام الفكري بمفهوم الشر ضمن تقسيماته الطبيعيّة والأخلاقيّة، مع تزايد جرائم الإبادات البشرية والأعمال الإرهابيّة والمسعى الإنساني نحو التوحش، لا سيما ما شهده العالم الغربي من أحداث ارهابية في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، ونمو حركات التطرّف والتشكيلات الإرهابيّة، وقد حظيت هذه المفاهيم بمقاربات تفكك جذر الإرهاب، وتربطه بالأسباب المنتجة له، ويأتي كتاب (جذور الشر) لتيري ايغلتون من بين الكتب المهمة والمثيرة للجدل في تتبع هذا المفهوم.
ينقسم الشر عند ايغلتون الى الشر الأخلاقي الذي يصدر عن الإنسان والشر الطبيعي الذي تمثله الكوارث والأوبئة التي لا دخل للانسان في صنعها، وهي من صنع قوى خارجة، ارجعت بعض الاراء الفلسفيّة فيها المسؤولية الى الاله، لكن ايغلتون يعارض هذه التصورات انطلاقا من كون الشر ضمن هذا المنطلق الطبيعي هو اداء وظيفي لقوى الطبيعة، وبذلك فإنه يضفي على هذا المفهوم صفة الشر البريء، وهو بذلك يتقاطع مع المفهوم الثيوقراطي التقليدي الذي يتحرّى اخلاء مسؤولية او تبرئة الإله.
إنَّ هذه النتيجة عند ايغلتون وبالاحتكام الى الفهم الوظائفي ستقود الى نتيجة مماثلة تجعل من الشر بشكل عام سواء الطبيعي او ما يتعلق به بالارادة الانسانية (الشر الاخلاقي) أيضا شراً بريئاً باعتبار وظائفيته المحكومة بمنطق الحتميات. فالعالم حسب ايغلتون مركّب من ثنائيات وتضادات تحتم علينا النظر بطريقة أخرى، ومراجعة كل طرق التفكير السائدة وعلاقتها باللغة وتأثيرها في حياتنا، فالنور يحمل في ثناياه جزءاً خفياً من الظلام، وكذلك بالنسبة للخير والشر فكلاهما ينبثق من الآخر، وكلاهما يكمل الآخر. وأنّ الشرَّ كان مكوناً أساسياً في بناء الحضارات وازدهارها، كما أنّه شرط للكينونة وبناء الشخصية، وحافز مهم للإبداع على مستوى الأدب والفن، موظفاً ادوات تحليله على مستويات بيولوجية كما عند «كانت» وسيكولوجية كما عند «فرويد» وأدبيّة كما عند «غولدنغ» في مقاربته الاجرائيّة لمفهوم الشر.
وجد هذا النسق التبريري معارضة فكريّة في مقاربات «حنة ارندت» التي طورت مفهوما للشر يعارض المفاهيم الاختزالية التي طرحتها المقاربات البيولوجية والنفسية التي تجد تجسداتها في مفهوم الشر الغريزي او الخطيئة الاولى كما عند كانت، أو التصور النفسي كما عند فرويد الذي يرى أن (الشر والعنف هما رد فعل يحكم اللاوعي البشري) وهذا المفهوم عند أرندت من المفاهيم المثيرة للجدل، فقد أعربت عن تحفظها تجاه فكرة وجود جزء من النفس البشريّة يعمل بشكل غير واعٍ ولا يمكن الوصول إليه بطرق علميّة أو منهجيّة. وقالت «إنَّ مفهوم اللاوعي يمثل تحريفًا للواقع ويزيد من الارتباك الفكري في الفلسفة».إنَّ فكرة اللا وعي كما ترى ارندت «تقوم على فرضية غير مثبتة علمياً وأنّها تعتمد على تصورات نفسيّة خاطئة. وأنه بدلاً من الحديث عن وجود جزء غير واعٍ في النفس، يجب على الفلسفة أن تركز على دراسة سلوكيات الأشخاص والعوامل التي تؤثر على هذه السلوكيات، فضمن المقترب النفسي يتم تبرير العنف والشر بوصفهما ردود أفعال لا شعورية وأما الشر الجذري او البيولوجي عند كانت فإنه بارتكازه على أمور أساسية هي ان الشر متجذر في اصل الانسان وهو عام وليس عرضيا اي انه يتخذ صفة كونيّة ومن ثمَّ فهو يخلي مسؤولية الانسان.إنَّ الشر بصفته البيولوجية يحيل الى مفهوم الاطلاقية أي النظر الى الشر بصفته مطلقا، وهذه الرؤية الكانتية تقوّضها امكانيات فعل الناس للخير فلو ان الشر كان صفة مطلقة للبشر ومتجذرة منذ الخطيئة الاولى فإن ذلك يعدم امكانية فعل الخير ومن ثمَّ فإن الشر لا يملك صفة جذريّة فالجذريّة تحيل الشر الى مجال القدرية والجبرية وفي هذه الحال فإن مسؤولية الانسان تعتبر ملغاة في صناعة الشر.
من هذا المساق صدر مفهوم الشر العادي او التافه في فلسفة هانا أرندت، والذي تعرفه على أنّه الشر الذي يقوم به الأفراد العاديون في الحياة اليوميّة، من دون أن يدركوا أنّهم يرتكبون أفعالًا شريرة. وقد استخدمت أرندت هذا المصطلح لوصف الأفعال الشريرة التي ارتكبها النازيون في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وفي نظر أرندت، فإن الشر التافه ينشأ عندما يتخلى الأفراد عن مسؤوليتهم الفرديّة ويتبعون الأوامر الجماعيّة، من دون تفكير في النتائج الأخلاقية لأفعالهم. وأن هذا النوع من الشر يمكن أن يحدث في أي مجتمع، ويمكن أن يرتكبه أي شخص، سواء كان ذلك في سياق الحرب أو في الحياة اليومية. كما ان الشر لا يمتلك صفة كونية اي انه ليس عاماً بل هو ذو طابع خاص ويتشكل داخل جماعات ما بعينها فهو عندما يمتد الى المؤسسات الدينية يكتسب طابعا ايديولوجيا وفي حال النظامين الشمولين النازية الالمانية والستالينية فقد اكتسب الشر والعنف طابعا ايديولوجيا في الحالة الثانية وطابعا عرقيا في الحالة الاولى.
بمعنى ان ارندت في اطار صياغتها لهذا المفهوم فانها تطرحه بوصفه مفهوما بديلا ومعارضا لمفهوم كانت حول الشر الجذري فالشر التافه يعني عندها التعبير الحقيقي عما وصلت اليه البشرية من تعميم، والذي حدث نتيجة الخلل الذي ساد العلاقات بين نظام السلطة والبنية الاجتماعية كالنازية والستالينية مثلا فالانظمة تستمد شرعيتها من الجماهير وهو ما تعبر عنه حنة ارندت الزواج بين النخبة والرعاع أي الانتقال من المجتمع الطبقي الى مجتمع الحشود، فالشر التافه يعني تحويل الانسان الى آلة عنفية مفرغة من أي محتوى انساني، ولذلك فإن ارندت اكدت في كتابها عن ايخمان المسؤول عن احراق اليهود والمعنون (ايخمان في القدس.. تقرير عن عادية الشر) بأن إيخمان لم يكن سوى موظف بورجوازي تافه، وليس سادياً أو شاذاً كما حاول الادعاء الإسرائيلي أن يصوره، بل شخص عادي تماماً، ومرعب في عاديته، ولم تَرَ أرندت في أيخمان تجسيداً للشر، بل أدركت أن الكارثة تكمن في قدرة النظم الشموليّة على تحويل البشر إلى محض «منفذين» و«تروس» في الآلة الإدارية – أي تجريدهم من إنسانيتهم، مؤكدةً على أن ثمة خطأ جوهرياً في بنية مفهوم القوة الاجتماعية بجعلها تعتمد بالأساس على عدم المساوة والهيمنة وترفض أن تشير القوة لبنى الهيمنة والعنف في المجتمع فـــ «السلطة تكمن حقاً في جوهر كل حكومة لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر، العنف بطبيعته أداتي» أي العنف والشر هما ليسا من طبيعة السلطة او السياسية فهما يحتاجان الى الشرعية فقط والعنف والشر يحتاجان الى تبرير فحيث تبدأ السلطة ينتهي العنف وحيث تنتهي السلطة او تنهار يظهر العنف بقوة اي العلاقة بين السلطة والعنف هي علاقة تعارض وليست علاقة توافق.
ومن منطلق هذه الكشوفات ترى ارندت ان الأنظمة الكليانية ومثالها في ذلك النازية الألمانية والستالينية الروسية لم يكن هدفها السلطة انما الهيمنة الكاملة على المجتمع وإفراغه من محتواه الانساني وتحويله الى اداة لتنفيذ الشر والعنف، والى ذلك تشير (رغم فاشية الجوهر الإيديولوجي للنازية والستالينية، إلا أن السمة الشموليّة تظهر جلياً في هدف هذه الأنظمة، الذي لا يقتصر على الاستيلاء على السلطة فحسب، بل يمتد لــ «يشمل» كل المجتمع ويجسّد التماثل الكامل بين الحزب الحاكم والدولة)، وتشير الى ضرورة إدراك خطورة هذه النظم والأهم خطورة الاعتقاد بأنّها أصبحت تنتمي إلى الماضي، واكدت أرندت على التحدي الذي تثيره هذه الإيديولوجيات باعتبارها تشكل انبثاقا لظاهرة جديدة جذريا تجبر كل الباحثين على القيام بمراجعة كاملة لأدوات التحليل العلمي المعهودة، وتخلص الى أن طابع الشر والعنف لا يكمن في السلطة أو السياسة بل أن لهما مجالا خاصا وانظمة خاصة وجماعات معينة يتشكلان داخلها، كما تخلص الى ان الشر التافه لا يعني اخلاء مسؤولية المنفذين او الادوات المنفذة للجرائم وتحميل المسؤولية للنظام الذي وظف هذه الادوات، وانما هم يتحمّلون جزءا كبيرا من المسؤولية نتاج تخليهم عن مسؤولياتهم الاخلاقية تجاه الانسانية وقبولهم التحول الى ادوات في الانظمة التوليتارية، ولكنها تدعو الى تطوير الادوات الفكرية والحفرية في مقاربة مفهوم الشر، من خلال نقد الانظمة المنتجة له، من دون التركيز الكامل على الادوات التي تتحكم بها هذه الانظمة.