البُعدُ الانثروبولوجي لرمزيَّة عاشوراء

منصة 2023/09/02
...

د.عبدالواحد مشعل

تبقى مأساة واقعة عاشوراء علامة شاهدة في تاريخ الإنسانيَّة بصفتها تمثل دلالة على البسالة والعنفوان والتضحية لأهل بيت النبوة، وهم يدافعون عن الحق وعن رسالة الإسلام ضد الطغيان، حتى باتت دلالاتها الثقافيَّة والحضاريَّة من المسائل الشاغلة لفكر الباحثين في مجال علم الاجتماع والانثروبولوجيا لفترة طويلة، كونها تحتاج إلى تحليل رمزيتها الإنسانيَّة التي تعدت حدود اهتمام المسلمين الى كل الثقافات التي تقدس الكفاح ضد الطغيان والظلم، لذا كان الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه الكرام، عنواناً بارزاً في التضحية من أجل رد الطغيان، وإعادة النصاب في قيادة الأمة إلى أهله.

إنَّ تفسيراً علمياً لكل الرموز التي أنتجتها تلك المعركة يجعلنا نقف إزاء ملحمة بطولية مليئة بالرموز والدلالات التي ترمز الى قيمة وكرامة الإنسان في كل عصر، ولعل رمزيَّة تلك الثورة تعطينا بعداً ثقافياً لكفاح الإنسان منذ القدم من أجل أنْ يكون حراً ويعيش تحت نظامٍ يكفل له العدالة الاجتماعيَّة وعبادة الله وحده. لذا يكون الحديث عن الدلالات الثقافيَّة في بعدها الانثروبولوجي عن ثورة عاشوراء يجعلنا نغوص في عمق الثقافة الإنسانيَّة نفسها لنتمكن من تفسير أحداثها في كل زمان ومكان وتحت كل مسمى يذكرنا بعاشوراء، بعدها رمزاً لكفاح الإنسان من أجل الحريَّة، على أنْ يكون سرداً يتضمن معاني قيميَّة تترجم نكران الذات للبطولة والتضحية ليس من أجل المال أو الجاه أو السلطة، إنَّما من أجل قيمٍ عليا يحتاجها الإنسان لتنظيم حياته وتحقيق شروط العدالة في مجتمعه، وتأكيد قيم السماء وإرجعاعها الى نصابها الطبيعي الذي تميز به عصر الرسول الأكرم (ص)، حتى يكون لزاماً على الوصف السردي بعمقه وبعده الانثروبولوجيين، معبراً عمَّا يبغيه الإنسان في أصله وفطرته.
وهكذا تضعنا ذكرى عاشوراء أمام امتحانٍ يتجدد سنوياً، وهو يجدد بنوده مع تطور الحياة، ليعبر عن ثبات منطلقات الثورة الحسينيَّة المنسجمة مع فطرة الإنسان ووجدانه وكفاحه من أجل الحريَّة والعدالة، فالمهم في الأمر أنْ تكون دلالات ورمزيَّة عاشوراء حاضرة في حياتنا، ونحن نتخذ منها طريقاً لمقاومة الظالمين الذين فقدوا القيم الإنسانيَّة من أجل الدنيا والشيطان، تقابلها رؤية الحق، وهي تترجم المعاني العميقة لوجود الإنسان، والمحور السببي لوجوده في الحياة معمراً للأرض ومضحياً من أجل قيمٍ عليا، وهو ما حدث مع ثورة الحسين (ع) وهي تعبر عن الضمير الإسلامي والإنساني، فرمزيتها الثقافيَّة تتعدى حدودها المحليَّة والإقليميَّة إلى حدود التاريخ الإنساني بكامله في ماضيه وحاضره ومستقبله، وهي تذكر الأجيال في الأزمنة بدلالات ورمزيَّة مأساة عاشوراء محاكية الضمير الإنساني في كل عصر، ومشكّلةً منظمومة قيمٍ ودروسٍ بليغة للإنسان الذي يسعى للتخلص من الطغيان، ويجعل من حياته عنواناً لرمزيَّة الحريَّة والبطولة.
إنَّ فهم هذه الحقائق على وفق تلك الدلالات الثقافيَّة يعطي للإنسان هويته التي خُلِقَ من أجلها وهي عبادة الله وحده وعمارة الأرض، وإنَّ ذلك لا يمكن أنْ يتمَّ في ظل طغيان، وظلم يهدد كيان الإنسان الثقافي، فكانت ثورة الحسين (ع) تجسيداً حياً لتلك الحقيقة وأعطت رمزيَّة تعتز بها كل ثقافات البشر خلال التاريخ.
ويبقى السؤال المحوري هو: كم استفدنا نحن من دروس تلك الثورة الحسينيَّة؟ وهل استوعبنا وفهمنا رمزيتها الدينيَّة والحياتيَّة معاً؟ والإجابة عن ذلك تكمن في مدى صدقنا وإخلاصنا لتلك القيم، ونحن نمارس حياتنا كلٌ في موقعه، ومدى قدرتنا على أخذ النزاهة والعفة والإيمان والعدالة منها؟ وهل تجعلنا قادرين على الأخذ من مساحتها الحقيقيَّة الاعتباريَّة فهماً أعمق للحياة؟، وينبغي ألا يغيب عن بالنا كل ذلك، ينبغي أنْ نسأل أيضاً: لماذا خلق الإنسان؟ ولماذا يثور؟ ولماذا يقاوم الطغيان؟ ثم من الذي أعطى الطاغي الحق أنْ يمارس القهر والحيف ضد قيم المجتمع؟ كل هذه أسئلة تدور حول الدلالات الثقافيَّة التي تؤشر أسباب ثورة الإنسان ضد الظلم في كل حين، وهكذا كانت ثورة الحسين (ع) جامعة لكل تلك الدلالات والرموز لكل البشر وفي كل العصور.
لنفهم بعد ذلك أنَّ تلك الثورة تمثل مؤشراً دالَّاً على البطولة والتضحية من أجل الحق والدين، وليس من أجل مجدٍ شخصي أو سلطة زائلة لتصل أبعادها ودلالاتها ومعانيها لكل ثقافات الأرض، فهي إنسانيَّة في شكلها ومضمونها في دفاعها عن القيم الإلهيَّة والإنسانيَّة بكل تجلياتها الكونيَّة.