جلال زنگابادي.. شاعرٌ رحل محتفياًً بعزلته

ثقافة 2023/09/11
...

 عدنان حسين أحمد


يعد الشاعر والباحث والمترجم الراحل جلال زنگابادي (طاب مثوى) من أبرز شعراء الظل في العراق. وكان يفضل هذه التسمية، وهو الزاهد الذي اعتكف منذ وقت مبكر جدا إلى القراءة والكتابة والتأمل الإبداعي والصوفي والوجودي. وبسبب نأيه شبه الدائم عن المنابر الإعلاميّة المقروءة والمكتوبة والمسموعة وتذمره منها لأنها كانت تغمطه حقه في كثير من الأحيان فقد التبست صورته، وتضبّبت إلى حد ما لكنه كان يزيل هذه الغشاوة الرقيقة بإطلالة قوية حينما يبعث لمجلة رصينة مثل «الثقافة» باقة من القصائد فتنشر له ملفا خاصا يحتفي بتجربته الشعرية يحمل عنوان «قطوف من جلالستان» أو تصدر له أحد المجلات والدوريات الكوردية الفتيّة «كتاب العدد» فيتنفس الصعداء قليلا ثم يعود إلى قطيعته وتذمره السابقين من المشهد الثقافي برمته.
وبضمنه المشهد الثقافي الكوردي الذي أهمله طويلًا قبل أن ينتبه إليه في السنوات العشر الأخيرة التي لم تطفئ زعله الشديد من قلّة العناية وندرة الاهتمام بشاعر كوردي صنع صوته الخاص، وبصمته المميزة بطريقة، قد لا أكون مُغاليًا إذا قلت، بأنها أسطورية أو (عصامية) كما كان يحلو له أن يقول لأنّه علّم نفسه بنفسه لغات أجنبية ولهجات محلية لم يدرسها في معهد أو كلية. كما شقّ بنفسه طريق القراءة، ونهل المعارف الأدبية منها، على وجه التحديد، من دون ارشاد أو توجيه متكئًا على نقطة الضوء التي تدلّه على عيون الأدب العالمي وآثاره الكبيرة التي تمدّه بطاقة عجيبة في مقاومة الفقر المدقع، ومقارعة الظلم والاستبداد اللذَين أخذا من حياة العراقيين مأخذًا كبيرًا.
ولكي نضع الأمور في نصابها الصحيح قبل أن تتشابك التكهنات والافتراضات غير الواقعية التي قد تنزلق هنا أو تنحرف هناك، سواء عن قصد أو من دون نيّات مسبّقة. فقد ولد جلال حسين محمد زنگابادي اللُرستاني في زنگاباد، وهي إحدى القرى الصغيرة جدًا التابعة لناحية جلولاء بمحافظة ديالى في 1 ديسمبر 1951م. زاولَ زنگابادي مهنًا متعددة بعد اغتيال والده سنة 1960م، ويشدّد، هو شخصيًا، على ذكرها في كل مناسبة فقد عمل «صانعًا للتنانير، وعتّالًا، وعاملًا في البناء، ومكافحة البعوض». تخرّج في دار المعلّمين بكركوك سنة 1969م، وعمل في التعليم الابتدائي لمدة عشرين عامًا غطت السنوات المحصورة بين عاميّ 1971-1991م. كما عمل لعقد من الزمان بائعًا للكتب على الأرصفة، وهي المهنة التي زاولها بعض الأدباء والفنانين خلال سنوات الحرب العبثيّة والحصار الجائر.
ثم انتقل إلى أربيل حيث وافته المنية في يوم الثلاثاء المصادف 5 سبتمبر 2023م متأثرًا بالجلطة الدماغية التي لم تمهله طويلًا فغادرنا إلى جوار ربّه مخلّفًا وراءه عشرات الكتب المخطوطة في الشعر والبحث والنقد والترجمة التي تربو بمجموعها على الـ 100 كتاب نشر منها قرابة 25 كتابًا مُؤلفًا ومُترجمًا وترك الثلاثة أرباع الأخرى بسبب ضيق ذات اليد، وإهمال المعنيين في الثقافتين العربية والكوردية على حدٍّ سواء.
يمكن القول بأنّ زنگابادي قد بدأ القراءة منذ وقت مبكر، وشرع بالكتابة الشعرية في منتصف الستينات من القرن الماضي بدليل أن ديوانه الموسوم «هذه هي معجزتي» الصادر عن منشورات الجمل 2009م يضم عددًا كبيرًا من قصائده المكتوبة بين عاميّ 1965 - 2005 م.
ثم أصدر لاحقًا “قصائد تأبى أي عنوان” بطبعتين؛ الأولى عن مؤسسة الرعد بكركوك 2009م، والطبعة الثانية عن دار صافي في أمريكا سنة 2014م. ثم أردفها بمجموعته الشعرية المعنونة “هكذا شطح الكائن مستقبلئذ” التي صدرت في أربيل سنة 2013م، وأسماها ملحمة مضادة وقد كتبتُ عنها في حينه دراسة نقدية مطولة شخّصت فيها أهمية مشروعه الإبداعي كشاعر يغرّد خارج السرب فعلاً. وقد ساعدته ترجماته من الفارسية والتركية وتفرعاتهما اللغوية للبلدان المجاورة على كتابة نمط شعري جديد تتلاقح فيه صور شعرية مُغرقة في نَفَسها الصوفي، والعرفاني من دون أن يتخلى عن رؤيته الكونية للشعر ويحصره ببقعة جغرافية محددة مهما اتسعت وترامت
أطرافها.
وعلى الرغم من أهمية ترجماته وأبحاثه ودراساته النقديّة إلّا أنّ نقّاد الشعر معنيون بدراسة منجزه الشعري المنشور وغير المنشور والوقوف عند المضامين الشعرية التي اجترحها على مدى 58 سنة بالتمام والكمال. آخذين بنظر الاعتبار أنه آثر النضال الثقافي الذي تُعد فيه الكلمة أمضى وأشدُّ وقعًا من السلاح. ومن يراجع سيرته الإبداعيّة على مدة خمسة عقود أو يزيد سيجد أنه كرّس قسمًا كبيرًا من حياته للترجمة ولعله من المختصين القلائل ليس بترجمة أشعار عمر الخيام فحسب، بل بمراجعة تراجم الآخرين لهذه القامة الشعرية الباسقة، والتقديم لتراجمهم وأبحاثهم ودراساتهم النقدية المحكّمة مثل “موسوعة الخيّام، رسائله العلميّة، الفلسفيّة والأدبيّة” تحقيق وتقديم : د. رحيم رضازاده ملك / ترجمة، وتحشية، وتقديم : جلال زنكَابادي / دار أرجوان و دار التكوين 2013م. أمّا هو شخصيًا فقد أنجز العديد من الكتب عن عمر الخيام بعضها منشور مثل “ديوان عمر الخيّام” دراسة وترجمة عن الفارسيّة، منشورات الجمل - بيروت/ بغداد 2010م، وله كتب أخرى عن الخيام لم تَرَ النور حتى يوم الناس هذا. وهي، في الأعم الأغلب، تفيد الباحثين والدارسين من طلبة الدراسات العليا الذين يتخصصون في دراسة ترجمة الشعر تحديدًا من الفارسية إلى العربية، كما يستمتع بها القارئ العادي الذي يريد أن يتعرف على هذا الشاعر الفذّ الذي “شغل المترجمين” على حد قول الراحل جلال زنگابادي الذي لا يفوّت فرصة من دون الإشارة إليه ودعوة القرّاء إلى الولوج في عالمه الشعري الذي يستفزّ مخيّلة المتلقي الشغوف بالصور الشعرية الجميلة التي تحرّك المشاعر الداخلية العميقة وتلامس الوجدان.
ترجم الراحل زنگابادي عددًا غير قليل من المجموعات الشعرية التي كانت تهزّه في أثناء القراءة العميقة المتأنية نذكر منها “عبر شبّاك تاج محل” للشاعر والقاص والمترجم الإيراني محمود كيانوش حيث كتب مقدمة جميلة لهذه المجموعة الشعرية التي صدرت في السليمانية سنة 2013م. كما ترجم إلى الكوردية مجموعة “محنة زرادشت وقصائد أخرى” للشاعر والروائي العراقي برهان شاوي وصدرت في بيروت سنة 2013م. ترجم زنگابادي من الكوردية إلى العربية ثلاث روايات للقاصة والروائية گلاويژ صالح فتّاح صدرت جميعها عن دار المدى سنة 2012م، وهي “الخادمة”، و”أسطورة گلي ناوگردان”، و”ثلاث قصص للفتيان”. وفي السياق ذاته ترجم رواية “الرحيل الدّامي” لحمه كريم عارف التي صدرت في أربيل 2012م. ومذكّرات “سنة في الجحيم” لمهاباد قرَداغي التي صدرت في إقليم كوردستان سنة 2010م.
يُوصَف زنگابادي بأنّه كاتب ومثقف موسوعي ذلك لأنّه قارئ متعدد الاهتمامات يقرأ الشعر، والنثر، والنقد الأدبي، وكتب الدين، والأسطورة، والتراث، والفلسفة وما إلى ذلك، فلا غرابة أن يدمغوه بالموسوعية، وهو يراوح في مثلث التراث والمعاصرة والمستقبلية. تتنوع اهتمامات الراحل فيقدّم لقرّائه موسوعة مُوجزة بعنوان “الكوردلوجيا” التي رأت النور في أربيل سنة 2014م، ومن جهة ثانية يتحفنا بكتاب “فرسان السّرد العراقيّون من الأرومة الكورديّة” الذي صدر في قامشلو سنة
2015م.
وفي الختام لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ ما كتبتهُ هو “غيض من فيض” ففي جعبتي الكثير من الذكريات والمواقف الأدبية والثقافية والحياتية التي تربطني بالشاعر الراحل جلال زنگابادي وصديقنا المشترك الروائي شاكر نوري. وكنّا نحن الثلاثة نخفف وطأة الحياة القاسية والرتيبة التي نعيشها في مدينة نائية في خاصرة العراق الشرقية المزروعة بالدبابير السامّة وزوار الليل الذين يسرقون البسمة من وجه الصباح. فنَم قرير العين يا أبا أورفي، فلقد رحل شاكر إلى باريس واستقر به المقام في الإمارات العربية المتحدة. وأنا يمّمتُ وجهي صوب الأراضي المنخفضة في ضواحي أمستردام، ثم استقررت في خاتمة المطاف بلندن، عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. أمّا أنت يا زنگابادي كما ديوجينوس الذي كان يبحث بفانوسه المتّقد عن الحقيقة في رابعة النهار صار بإمكانك أن تُطلَّ من عليائك لتُدرك أنَّ الموت الذي ينتظرنا جميعًا هو اليقين الثابت في لُعبة الحياة الفانية.