الكرنتينة.. من محجرٍ صحي للأوبئة الى محلّة حياة

منصة 2023/09/12
...

 يوسف المحمداوي
 تصوير: نهاد العزاوي

عشق الأمكنة لا يختلف أبداً عن عشق الأوطان، وقد أراه من وجهة نظر شخصيَّة البذرة الأولى لعشق الوطن الكبير، لذلك تجد الكثير من الذين هاجروا بلدانهم، تجدهم غادروها كأجسادٍ ليس إلا، أما أرواحهم فبقيت هناك حيث المهد الذي احتضن طفولتهم، حيث أزقة المحلة التي عاشرت صباهم بنقائهم وطيشهم، لا أغالي إذا ما قلت إنَّ عشق مناطق الولادة يشبه عشق الوالدين، لكونه العشق الوحيد الذي لا تشوبه شائبة ولا تحكمه أيَّة مصالح سوى تلك المشاعر الربانيَّة التي زرعها فينا الخالق، وصدقت الراحلة “إيزابيل الليندي” حين قالت: “الأم والوطن لا يمكن المزاح فيهما، فكلاهما مقدسان”، وليس اعتباطاً حين قال أحدهم: “سجن الوطن ولا حريَّة المنفى”.


أزقة ضيقة وبيوتات صغيرة
اليوم نبحرُ مع محلة بغداديَّة لم يسلط الضوء عليها إعلامياً، ولم تؤرشف لها ذاكرة التراث المكان الذي تستحقه على خارطة الوطن، ليس لقدمِها فقط، بل لتعدد ينابيع الحياة التي تدفقت من محاجر أدران الموت الذي عاشته في بداية تكوينها.
محلة الكرنتينة الواقعة شمال باب المعظم والممتدة منه الى نهاية أسوار مقبرة الانكليز من الجهة اليمنى، ومن الجهة اليسرى الى أسوار دار الحريَّة للطباعة والنشر التي نراها اليوم عبارة عن بناءٍ مدّمر، بعد أنْ سُرِقَ كل شيءٍ فيها من قبل اللصوص.
اتجهنا أنا والزميل المصور نهاد العزاوي لبيوتات تلك المحلة والتي صفت مع بعضها كالبنيان المرصوص داخل أزقة ضيقة لا يتجاوز عرض البعض منها المتر الواحد باستثناء شارعها الرئيس الذي يقسم المنطقة الى جزأين، الأمر الذي جعل أصحاب العجلات يلجؤون الى المرأب القريب من المحلة، وكأزقتها تلك البيوت المبنيَّة من الطابوق القديم لا تتجاوز مساحتها في أفضل الأحوال الستين متراً، وسعيد الحظ من تصل مساحة بيته إلى 100 مترٍ، البيوت متلاصقة ومتعاشقة مع بعضها كقلوب ساكنيها الذين يتفاخرون الى يومنا هذا بأنَّ منطقتهم الوحيدة في بغداد التي لم يطلها رصاص الإرهاب ولا أمراض الاحتقان الطائفي، ورغم تعدد أنساب ساكنيها لكنَّ النسبَ الأكبرَ الذي يجمعهم كما يقولون هو محلتهم التي تحكمها عشرة السنين الطويلة وحسن الجوار والتكاتف والتكافل في ما بينهم.

الحدود الجغرافيَّة للمحلة
المواطن حسين صالح مهدي الصالحي (صاحب مطعم في المنطقة) وهو أحد سكنة المنطقة أباً عن جدٍ كما يقول، يبين لنا أنَّ المحلة التي رأت النور في العهد العثماني تعدُّ من محلات الرصافة القديمة، وهي تمتدُّ من شمال منطقة باب المعظم وجنوب محلة الوزيريَّة ومنطقة الكسرة، وكانت حدودها تصل الى البساتين والمزارع المطلة على نهر دجلة والتي تحولت في ما بعد الى مدينة الطب وموقع وزارة الصحة الحالي، ومن جهة الشرق كانت تحدها سدة ناظم باشا أحد الولاة العثمانيين، ويبين الصالحي أنَّ “أهم معالم المحلة المعروفة والشهيرة بحسب قوله: هي كليَّة الهندسة التي تأسست في العهد الملكي، وكذلك الغربيَّة المتوسطة التي أنشئت في بغداد عام 1929 في منطقة الكرنتينة من منطقة باب المعظم. وكان يحدها من الغرب حديقة المعرض الغناء التي كانت من أجمل حدائق الزهور في بغداد بعد (بارك السعدون)، ومن الشرق كليَّة الهندسة ومن الشمال ثكنة الخيالة العسكريَّة، ومن الجنوب كليَّة الملكة عالية. وكان يفصلها عن كليَّة الهندسة الشارع المؤدي الى الوزيريَّة، وقد ضمت بناية المدرسة أغلب ما تحتاجه المدارس الحديثة من مرتكزات تسهم في نجاح عملها التربوي، وفضلاً عن  أساتذتها الكبار في الإبداع، تخرج فيها العديد من رموز المجتمع العراقي في جميع ينابيع المعرفة”.

واجهة للتراث البغدادي
ضمت المحلة دائرة المطابع العسكريَّة وحوانيت الجيش التي تقع خلف جمعيَّة المحاربين، وكذلك بناية مديريَّة الموسيقي العسكريَّة التي مهمتها إحياء الاستعراضات العسكريَّة وكذلك استقبال الملوك والزعماء، ودائرة الطبابة العسكريَّة، وكذلك المستشفى البيطري، ومن مقاهيها كما يقول الصالحي مقهى إبراهيم عرب الذي تحول الى فرنٍ للصمون، ومقهى الجماهير الذي كان حاضناً لجلسات الأدباء والفنانين والصحفيين والعديد من شرائح المجتمع، وفي المنطقة صورت العديد من المسلسلات المحليَّة لكونها تمثل واجهة حقيقيَّة للتراث البغدادي القديم، ومن مبالغات إبراهيم عرب كما يقول محدثنا (بأنَّه قام بضرب كرة القدم، وبعدها ذهب الى بيته لتناول الغذاء، ولم تنزل الكرة إلا بعد عودته من البيت. والكثير من مبالغاته التي اشتهر بها).

خانات الكرنتينة
المواطن سلمان توفيق محمد (أبو داود) من مواليد العام 1947 وهو أحد سكنة المنطقة القدماء، بين لنا أنَّ المنطقة ضمت خانات عدة، من أهمها خان شبيب وخان أمينة وهي عبارة عن فنادق سكنتها العديد من الأسر، والمطعم الموجود حالياً على الشارع العام هو جزءٌ من خان شبيب بحسب قوله، وجاء تأسيس المحلة في العام 1837 لتكون المحجر الصحي الأول في بغداد، لحجر المصابين بالأوبئة القاتلة في زمن العهد العثماني، ومن بعد ذلك المحجر انتشرت محاجر أخرى في عموم مناطق العراق.

أصل التسمية
يؤكد كلام أبو داود، مقالة نشرها الصحفي زياد الفيفي (سكرتير تحرير شؤون السعوديَّة والخليج في الاندبندنت العربيَّة) قال فيها: “ظهرت المحاجر الصحيَّة في فرنسا للمرة الأولى، وحملت اسم  Quarantaine، واشتق الفرنسيون هذه الكلمة من كلمة Quarante والتي تعني (أربعين) باللغة الفرنسيَّة، وهي المدة التي كان يقضيها المحجور داخل الحجر للتأكد من سلامته.
لينتقل النموذج إلى أوروبا، وسُمّي في بريطانيا Quarantine، وبإسبانيا Cuarentena، وفي العربيَّة كان قريباً من اللفظ الإسباني “الكرنتينا.
ومع تطوّر النموذج وتحوّل هذه المناطق المعزولة إلى أحياءٍ سكنيَّة، وتحوّل نشاط الحجر إلى مستشفيات مغلقة داخل هذه الأحياء، اختفت هذه الأحياء في العالم العربي بحكم عامل الزمن، وتقلَّدت أسماءً جديدة، لكنَّ الأمر كان مختلفاً بالنسبة إلى بيروت وجدة وبغداد، تلك المدن التي حافظت على المسمّى رغم التغييرات التي طرأت على وظائف الأحياء فيها.
في العام 1831 ضرب الطاعون بغداد، وحصد حسب بعض الروايات الآلاف يومياً، حتى قيل إنَّ المدينة كانت تشهد وفاة ما يقارب التسعة آلاف شخصٍ في اليوم الواحد.

سوق {الجايف}
تركت هذه الفترة العصيبة أثرها في المدينة العتيقة، فحسب ما ذكره علي الوردي في كتابه “لمحات اجتماعيَّة من تاريخ العراق الحديث”، فإنّ ما يُعرف بـ(سوق الجايف) الواقعة بين شارعي النهر والرشيد، اكتسبت اسمها من تلك الحقبة، بعد أنْ امتلأت بالموتى أثناء انتشار الطاعون، واشتدت نتانتها بسبب الجيف إلى درجة لا تطاق.
يقول الباحث العراقي، رشيد خيون: “إنَّ العراق بعد العام 1837 شهد افتتاح عددٍ من دور الحجر الصحي، وشهد عددٌ من الولايات العراقيَّة افتتاح محاجر، أشهرها كان في منطقة بغداد، التي تعرف بـ(الكرنتينا) إلى يومنا هذا، وتقع قريباً من الباب المعظّم، ورغم تبدُّل مهمتها، فإنها احتفظت باسمها (الكرنتينا) الذي لم يعد يشير إلى الحجر الصحي، بل إلى منطقة جغرافيَّة”. وأضاف “كانت الإقامة داخل (الكرنتينا) تمتد إلى 40 يوماً، يخرج بعدها من لم تثبت إصابته، وأنشأتها السلطات عند مداخل عددٍ من العواصم المهمة مثل بغداد”.

تجارة الأسلحة والخيول
المواطن أركان عسل لطيف وهو من سكنة المحلة وينتمي الى أسرة تعرفها المنطقة باسم بيت (قريج) لتميزهم بأصواتهم العالية، وقد اشتهرت تلك الأسرة ومنهم كاظم الدلال وحسن الدلال بتجارة الأسلحة والخيول، وكانت الأسرة الوحيدة التي لهم (طولة خيل) في المنطقة حسب قول حفيدهم، الذي بين لنا أنَّ سعر المتر المربع من الأرض داخل المنطقة وصل الى أربعة ملايين دينار عراقي، وعزا سبب ذلك الارتفاع بأسعار الأراضي والبيوت لموقع المحلة الاستراتيجي لكونها تقع وسط بغداد، ولقربها من المجمعات الطبيَّة والصيدليات ووزارة الصحة ومدينة الطب، استخدمت بعض بيوتاتها كمخازن ومذاخر للمواد الطبيَّة والأدوية، وهذا ما أسهم في غلاء أراضيها على الرغم من صغر مساحاتها، موضحاً أنَّ الكثير من الساسة والعسكريين والفنانين سكنوا هذه المنطقة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر “محمود رامس أحد أعضاء المجلس النيابي”، وكذلك الفنان ناظم الغزالي قبل أنْ يتزوج من الفنانة سليمة مراد ومطرب المقام يوسف عمر وغيرهم كما بيّن محدثنا.

دائرة الحجر الصحي
الخبير القانوني والمحامي الراحل طارق حرب ذكرها في أحد مقالاته قائلاً: “(الكرنتينة) محلة بغداديَّة حديثة الظهور اشتهرت بالحجر الصحي في نهاية العهد العثماني، وأول القبور في مقبرة الانكليز (تابعة لمحلة الكرنتينة) هو لقائد الجيوش الانگليزيَّة التي دخلت بغداد الفيلد مارشال (ستانلي مود) الذي توفي ببغداد بسبب مرض الكوليرا بعد ستة أشهر من دخول جيوشه للعراق، وكذلك قبر القائد الانگليزي الكولونيل (لچمان)، وفي محلة الكرنتينة توجد الكرنتينة العثمانية أي بناية الحجر الصحي التي يعود أمرها الى سنة ١٨٣٨، حيث ارتبط إنشاء هذه المحله وظهورها كمحلة بغداديَّة بهذا التاريخ، وكانت مفتشيَّة صحة ولاية بغداد ترتبط بإدارتها المركزيَّة في استنبول ولها ميزانيَّة خاصة مستقلة عن ميزانيَّة ولاية بغداد وتتولى دوائر (الكرنتينة) التابعة لها مهمة الإشراف الصحي على دخول الزوار لولاية بغداد وفحص الجنائز التي تردُ إليها، لتدفن في مدن العتبات المقدسة التابعة لبغداد”.

الجباية بعشرة قروش
دائرة الحجر الصحي كانت تتقاضى رسماً من الزوار القادمين قدره عشرة قروش عثمانيَّة عن كل زائر ورسماً آخر عن فحص كل جنازة وتتولى دوائر (الكرنتينة) في المدن المقدسة جباية رسمٍ عن كل جثمان يدفن في هذه المدن.
وختاماً لا بُدَّ أنْ نقول إنَّ دائرة الحجر الصحي أي (الكرنتينا) الموجودة في المحلة البغداديَّة الجديدة هي أول بنايتها، وقد أخذت المحلة السكنيَّة الحاليَّة اسمها من اسم هذه الدائرة فسميت محلة (الكرنتينة) وهو اسمُ أول بناءٍ في هذه المحلة.
غادرنا هذه المحلة أنا والزميل المصور ونحن نبحث في الذاكرة عن مكانٍ آخر في وطنٍ متخمٍ بالأمكنة التراثيَّة والتأريخيَّة التي يسيل عليها لعاب الغرباء الباحثين عن الحقائق التأريخيَّة في وطنٍ سورتّه الحضارات والأمجاد، وما أجمل قول شاعرنا عدنان الصائغ وهو يصف عشق الإنسان لوطنه قائلاً:
“من أجلِ ألّا تكسرَ الشظايا زجاجَ الوطن غلّفوه بالشهداء”.