الرواقيَّة.. فلسفة حياة.. أم فلسفة عجائز؟
علي حبيب
|لطالما كانت الرؤية اليونانيَّة لا تنظر إلى هذا العالم نظرة فوضى وعدم انتظام، وإنما وفق تناغم ونظام (الكوسموس) أو النظام الكوني. وهذه الرؤية تعزّز الفرديَّة لدى الإنسان بوصفه كائناً فاعلاً وجزءاً لا يتجزأ من نظام هذا الكون. فكلما زاد إحساسنا بأننا نشارك في ألوهيَّة التناغم الكوني قلَّ خوفنا من الموت. هذه الرؤية الرواقيَّة الخالصة تطمئن الكائن البشري وتقلّل مخاوفه من الموت، لأنَّ الموت هنا ليس فناءً خالصاً وإنما بمعنى التحول إلى المادة الأولى عن طريق الاحتراق الكوني. يقول ابكتيتوس: “ليس هنالك فناء تام، بل تحولات بين الأشياء، والموت ليس شيئاً غير ذلك، فالكائن الموجود لا يتحوّل إلى اللاوجود بل يتغيّر إلى شيء آخر يحتاج إليه العالم”، كما يشير سينكا أيضاً بنص آخر إلى أنَّ “اليوم الذي ترهبه بوصفه النهاية هو مولدك إلى رحاب الأزل”، فالمقصود هنا في القولين السابقين هو ليس الخلود بل الانتقال إلى المادة الأولى عن طريق الدورة الكونيَّة ( الاحتراق).
رغم أنَّ الفكرة في فحواها هي خضوع مباشر لهيمنة القدر، كما تؤكد هذا الجانب المسرحيات المأساويَّة، بعرضها للأهوال لكلِّ من يأنس في نفسه القدرة على معارضة هذا النظام، أو الإخلال بجزئيَّة صغيرة تُربك سيره.
يؤكد الرواقيون هذه النظرة، بوساطة التناغم الحاضر سلفاً عند كلٍّ من هوميروس وهزيود، إذ يشبهون تناغم هذا الكوسموس بالانتظام الرائع لعضويَّة حيَّة تتفاعل أعضاؤها وتقدم إسهامها الكامل في الحفاظ على الوظائف الحيويَّة لدى الفرد، فمثلما يكون للعضو منزلته المحددة ووظيفته المميزة داخل العضويَّة، كذلك لكلِّ كائن بشري موقعه الفريد ودوره الخاص في تناغم الكلِّ الكبير. فحين يلتحق كائن بشري بـ(مكانه الطبيعي) على حدِّ تعبير أرسطو ويستعيد منزلته في التناغم الكوني، مثلما يحتلّ أحد الأعضاء منزلته في عضويَّة ما، حينها فحسب يحس (وهذا بداية الحكمة) أنه قطعة من الكوسموس. فمفهوم الحكيم هنا يقتصر على من يمتلك القدرة على التغلب على فكرة الخوف من الموت، ليعيش بنفس مطمئنة، لذلك كان الخوف بنظر اليوناني هو العدو الأول للحكمة.
عالجت المسيحيَّة برأي لوك فيري مسألة غاية في الأهميَّة وهي فكرة البعث (جسداً وروحاً) للأفراد في تفرّدهم، بحيث تكون النجاة على اعتبارنا أشخاصاً وليس بصفتنا مجرد قطع-كالفهم السابق الذي ساد في الفلسفة- وهكذا ستصنع المسيحيَّة انطلاقاً من اليهوديَّة، خلاصاً شخصياً ومعه انتصار حقيقي على الموت لأنَّ ما يعد به المسيح هو حقاً (موت الموت) لأنَّ في هذا التفسير المسيحي لقيا من فقدناهم في ملكوت سرمدي، لقاء جديد بكلِّ من أحببناهم. وهذه الحياة التي تقترحها المسيحيَّة هي أشدّ إغراء من تلك التي تسعى إليها فلسفات العصر القديم. فالجواب المسيحي برأي لوك فيري هو جواب أكثر إنسانيَّة من جواب اليونانيين لأنه مشخص أكثر، وهو في آن واحد أقل إنسانيَّة، بمعنى أنَّ العقل اليوناني يُزاح جزئياً لصالح الوحي والإيمان.
أن تكون رواقياً هو أن تكون مؤمناً بأنَّ القدر يسير وفقاً للضرورة.
فلسفة الحياة لها مكونان كما يشير إلى ذلك وليم ب إرفين، الأول أنها تُخبرنا ما الأشياء في الحياة التي لا تستحق أن يسعى المرء إليها، والأمر الثاني تُخبرنا كيف نكسب الأشياء التي تستحق. فالطمأنينة (الفضيلة كما سُميت سابقاً) برأي الرواقي هي أمر يستحق أن يسعى المرء إليه.
الفضيلة تعد غاية لكلِّ رواقي، والفضيلة لا بالمعنى المعاصر (كما نفهمه الآن)، بل شدّدت الرواقيَّة على العيش وفقاً للطبيعة، وهذا يحدث من خلال أداء الفرد لعمله بشكل جيد. إنَّ كلَّ فرد حسب الرواقيَّة، رُسم له مسار معين، فأداء العمل على أكمل وجه، سيؤدي إلى حياة كريمة.
أولت الرواقيَّة الجانب العملي أهميَّة أكبر مقاساً بالجانب النظري، فأرادت من فلسفتها أن تكون أسلوب حياة، لا كلاماً يصعب تحقيقه، محاولة بذلك توظيف الطرائق الفلسفيَّة في العيش اليومي.
فالاهتمام الرئيس لدى الرواقيَّة ينصبّ على ثلاثة: المنطق، الفيزياء، الأخلاق. فيشبه ديوجينيس الائرتي بأنها أشبه بحقل خصب “حيث المنطق هو السور الذي يطوقه، الأخلاق هي المحصول، والفيزياء هي التربة”. لكن فيما بعد مع الرواقيين الرومان (المتأخرين) أهملت الفيزياء والمنطق وأصبح التركيز قائماً على الأخلاق.
فالخلاص قائم على الأخلاق، ولا ضير أن يكون الرواقي مهملاً للمنطق والفيزياء على حساب الأخلاق حسب ماركوس أوريليوس. فالفضيلة التي يلخصها الرواقيون بأنها السعي إلى الطمأنينة، ليست دواءً مُسكناً أو حالة من اللامبالاة، كما يؤكد ذلك وليم ب. إرفين في كتابه (دليل إلى الحياة الكريمة) بل تتحقق الطمأنينة بغياب العواطف (الانفعالات) السلبيَّة مثل الغضب، الحزن، القلق، الخوف... ويجب التمييز بين الأشياء التي في وسعنا التحكم بها وبين تلك الأخرى التي لا يسعنا السيطرة عليها. فالذي باستطاعته التخلص من الانفعالات، وينسجم مع الطبيعة هو الإنسان الحكيم بحسب الرواقيَّة.
الذي يعرفه ديوجينيس اللائرتي بأنه ذلك الشخص “الخالي من الغرور، لأنه غير مكترث بالسمعة الطيبة أو السيئة... أشبه بإله”.
التخيل السلبي: إنَّ حالة الإفراط في التفكير، التي تحدث لنا تجعلنا نفكر بأشياء سلبيَّة ووقائع وأحداث لم تحدث أو سابقة لأوانها، كالتفكير بالمرضِ أو المصائب، وكيف يمكننا العيش حينها؟ هذا السبق الزمني للأحداث لن يمنع وقوعها، لكنَّ عيشنا بتخيل سلبي سيخفف من وطأة الحدث حين وقوعه، أما إذا كنا نتوقع كلَّ ما هو جيد، سنصاب بإحباط كبير. هذا الحل الذي قال به الفيلسوف سينكا وأيده في ذلك إبكتيتوس، إذ يقول: إنَّ “سائر الأشياء أينما تكون هي أشياء فانية”، زد على ذلك أننا البشر جشعون لأننا نعمل بجد كي نحصل على ما نريد، بشكل مستمر وروتيني، من ثم نفقد اهتمامنا بموضوع رغبتنا، من ثم يبدأ الضجر ورداً على الضجر نستمر في تكوين أو تشكيل رغبات جديدة وأكبر وهكذا دواليك. لكن رغم نجاعة هذه الفكرة إلا أنَّ هذا التفكير على المدى الطويل برأينا، سيجعل من ذواتنا، ذواتاً سلبيَّة، ممتعضة من جرَّاء الواقع الذي يحتم علينا وفق سيرورة منطقيَّة جريان الوقائع، التي تفقد علينا البهجة وعيش اللحظة، فضلاً عن الكآبة التي ترافقنا على المدى الطويل من الإضمار التراكمي للسلبيَّة، بكلِّ تأكيد سوف ينتقل هذا التأثير السلبي على محيطنا الاجتماعي. ربما هذا الاعتراض مبرر، لكن وليم ب. إرفين يجيب بأنَّ التخيل السلبي، بدلاً من أن يجعل البشر متجهمين، يزيد مدى استمتاعهم بالعالم المُحيط بهم. فالرواقي يقدر الناس المحيطين به والأشياء بنحو لافت للنظر.
إنَّ التخيل السلبي يساعدنا أكثر على تثمين العالم، وتقدير القيمة الحقيقيَّة للأشياء، من خلال تخيلنا لفقد هذا الشيء الذي في متناولنا، والإحساس بنعمة امتلاكه. ماذا لو فقدنا هذا الشيء ؟ كذلك الأشخاص الذين نُكنّ لهم الحبَّ، ماذا لو فارقونا؟ هذا التثمين للوقت ومحاولة استغلاله سوف يجعل من لحظاتنا اتجاههم، لحظات قيمة لأننا أدركنا لربما أنها المرة الأخيرة التي سوف نراهم فيها، حتماً ستكون هناك مرة أخيرة.
طاقة الشباب ترفض الخضوع التام لسلطات القدر، بل لا ترضى بوابل التبريرات التي تقدمها الفلسفات والأديان. أرواح متسمة بالتمرد. بسبب روح الشباب الطافحة بالطاقة. لكن بعد مدة من الزمن حتماً ستتغير القناعات وفق السياق الطبيعي.
يذكر وليم ب إرفين أنَّ المُسنين أوفر حظاً من الشبيبة في تقدير الطمأنينة التي يقدمها الرواقيون. قد يجد الشاب الأمر مُحيراً أنَّ شخصاً ما يكتفي بأن يرضى بمجرد الطمأنينة، أما الشخص الثمانيني فمن المحتمل أنه لا يُقدر فقط كم هي شيء ثمين الطمأنينة بل يدرك كم هم قليلون الأشخاص الذين يتمكنون، في أثناء زمن الحياة، أن يحرزوها. يُشير سينكا “لئن كان الله سعيداً بأن يُضيف يوماً آخر، علينا أن نرحب به بأفئدة مسرورة”، هذه القناعة التي أوعز بها سينكا لا تُرضي مزاج الشباب، لأنه الشاب يتراءى له أنَّ الحياة مملة، وكلّ شيء يثير الضجر، وأنَّ كلَّ شيء مفروغ منه، أما الكبار في العمر، المُسلّمون للقدر، ضعفاء الصحة، فيُفضلون التسليم والسير وفق الطبيعة، فماذا يختار لنا القدر هو في مصلحتنا، والامتنان واجب للردِّ على اليوم الجديد الذي رُزق به. ربما تكون الرواقيَّة فلسفة حياة أو فلسفة عجائز، أو كليهما. لكنها فلسفة لا تتيح لإرادتنا خلع الطاعة للأقدار.