عبد الحليم الرهيمي
مرت يوم 30 آب/ أغسطس الماضي الذكرى الحادية والاربعون لتوقف حصار القوات الاسرائيلية للعاصمة اللبنانية بيروت، بإرغام قيادات وكوادر ومقاتلي المقاومة الفلسطينية، ومعهم العرب والأجانب الداعمون لهم من شواطئ بيروت على ظهر بارجة أميركية، متوجهة بهم إلى مناطق شتات جديدة. وإذ اتخذت القيادة الفلسطينية من تونس مقراً جديداً لها مع غالبية المغادرين من بيروت، فقد توزع العدد الآخر بين سورية واليمن ومناطق أخرى، وفقاً لخيارهم.
لقد فرض الحصار بعد أيام من بدء العدوان الإسرائيلي الإجرامي على لبنان، الذي بدأ بقصف عدد من محافظات ومناطق الجنوب يومي 4 و 5 حزيران 1982 تمهيداً لاجتياح القوات الغازية للأراضي اللبنانية، ابتداءً من يوم 6 من الشهر ذاته، ثم تقدمت بعد ذلك شمالاً نحو بيروت، وتوقفت عند بلدة خلده جنوبي بيروت، ولم تواجه بمقاومة فاعلة بعد مغادرة، وترك قيادات ومقاتلي المقاومة مواقعهم في تلك المناطق إلى بيروت، في حين لم يواجه أهالي تلك المناطق القوات الاسرائيلية الغازية مقاومة تذكر لأسباب عدة، أبرزها الانتهاكات الواسعة بحق أهالي تلك المناطق وممتلكاتهم، وفي حين ركزت القوات الاسرائيلية مواقعها واستحكاماتها جنوبي بيروت عند بلدة خلده اقامت قوات أخرى منها مواقعها واستحكاماتها في مناطق شرقي بيروت، بدعم ومساندة حزب الكتائب وحزب القوات، وبذلك أحكمت طوق الحصار جنوباً وشرقاً وشمالاً على بيروت، ولم تقع بينها وبين قوات المقاومة الفلسطينية، وقوات الحركة الوطنية اللبنانية، سوى مناوشات بسيطة حتى توقف الحصار بمغادرة القوات الفلسطينة والوطنية اللبنانية بيروت. وقامت القوات الاسرائلية الغازية بعد ذلك باجتياحها وارتكاب مجازر مروعة ودموية إجرامية، لا سيما ضد أهالي المخيمات الفلسطينية، خاصة مخيم وشاتيلا، الذي يقع قرب حي الفاكهاني، الذي أطلق البعض على هذا الحي (جمهورية الفلسطينيين)، لأنه كان مقراً لقياداتها وكوادرها والعاملين في صفوفها، فضلاً عن أسرهم.
وخلال فترة الحصار التي استمرت 87 يوماً (واطلق عليه حصار المئة يوم)، فقد مثلت بيروت بأهاليها وبقوات المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية (أيقونة) الصمود والتحدي للقوات الاسرائيلية الغازية، وكان الكلام التعبوي والإعلام والأناشيد الوطنية، تحيي وتمجّد هذا الصمود والاستعداد، لمقاتلة العدو الاسرائلي الغازي، ولطالما وصف بعض الاعلام الفلسطيني الحصار والصمود والاستعداد لمقاتلة العدو، بأنه يشبه حصار مدينة (ستالينغراد) السوفيتية (كان اسمها بطرس بورغ في العهد القيصري، وسميت ( ليننغراد)، بعد انتصار الثورة البلشفية، ثم أطلق عليها اسم (ستالينغراد) بعد صمودها ضد الغزو الالماني النازي في الحرب العالمية الثانية، وعندها كان جوزيف ستالين يرأس الدولة السوفيتية. لقد صمدت (ستالينغراد) 872 بوجه النازية، وبعد الاستعداد لهجوم مضاد وواسع، استمر نحو اربعة اشهر تحررت المدينة وطرد القوات النازية وهزيمتها وكان هذا النصر حاسماً في نهاية الحرب العالمية الثانية.
طبعاً لم تكن هناك أوجه شبه كثيرة لمقارنة صمود بيروت بصمود ستالينغراد، لكن الاعلام الفلسطيني والوطني اللبناني عمد إلى ذلك لرفع المعنويات العالية أصلاً لأهالي العاصمة والقوات المقاومة المستعدة لمواجهة العدو كان الأهالي وكل من هو تحت الحصار يتمتعون بمعنويات عالية وبفرح غامر أساسه الأمل الواعد والقوي بالانتصار، وإرغام العدو على التراجع، وكنت كواحد من مئات الآلاف الصامدين والمتحملين لأعباء الحرب والحصار، مساهماً نشطاً في الإعلام الفلسطيني لحركة (فتح)، ومركزه في منطقة الحمراء، وكنت أجمع كالآخرين بين عملي ومهمتي في الاعلام والتعبئة وبين عائلتي: زوجتي وطفلي، الذي لم يتجاوز العامين حيث كنت أتنقل بهما من مكان لآخر، لانتشار الشائعات الحقيقية والمفبركة بأن قوات العدو ستقصف هذا الحي بعد قليل لوجود (ياسر عرفات) والقيادة الفلسطينية، وشائعات آخرى تتحدث عن احتمال أن تقصف اسرائيل قنابل (فراغية)، تهدم البنايات من أساسها بمن فيها. وهكذا بين هذه الاجواء والاشاعات والعمل الاعلامي ورعاية العائلة لتوفير المواد الغذائية والمستلزمات العائلية تفترض مني وكما من مئات آلاف الأسر القيام بذلك، ولعل ما كان يبدد كل هذه المتاعب والمخاوف هو المعنويات العالية بالصمود وبأمل الانتصار وارغام العدو على التراجع
والانسحاب.
كانت تلك واحدة من الشهادات الحيوية التي تحملها ذاكرة محاصر وربما عشرات الالاف من المحاصرين الذين لا زالت ذاكرتهم طريه عن ايام الحصار. وستكون شهادات المحاصرين متكاملة مع الشهادات المهمة والحيوية، التي سجلها مؤخراً الاستاذ غسان شربل رئيس تحرير صحيفة (الشرق الاوسط) اللندنية ونشرت بحلقات مؤخراً، لأنها تسجل شهادات لقيادات مهمة وبارزة فلسطينية ولبنانية وطنية وحكومية ومسؤولين عرب واجانب عن رؤيتهم لحصار بيروت، وما كان يدور من حوارات وصراعات والحلول المقترحة والمضادة للمبعوث الاميركي والسفير الروسي والمسؤولين اللبنانيين والقادة الفلسطينيين واللبنانيين... إنها شهادات مهمة لصناع القرار وبما تنعشها شهادات ذاكرة المحاصرين.