حصار بيروت عام 1982 في ذاكرة المحاصرين

آراء 2023/09/13
...






 عبد الحليم الرهيمي


مرت يوم 30 آب/ أغسطس الماضي الذكرى الحادية والاربعون لتوقف حصار القوات الاسرائيلية للعاصمة ‏اللبنانية بيروت، بإرغام قيادات وكوادر ومقاتلي المقاومة الفلسطينية، ومعهم العرب والأجانب الداعمون لهم من ‏شواطئ بيروت على ظهر بارجة أميركية، متوجهة بهم إلى مناطق شتات جديدة. وإذ اتخذت القيادة الفلسطينية ‏من تونس مقراً جديداً لها مع غالبية المغادرين من بيروت، فقد توزع العدد الآخر بين سورية واليمن ومناطق ‏أخرى، وفقاً لخيارهم.‏

لقد فرض الحصار بعد أيام من بدء العدوان الإسرائيلي الإجرامي على لبنان، الذي بدأ بقصف عدد من ‏محافظات ومناطق الجنوب يومي 4 و 5 حزيران 1982 تمهيداً لاجتياح القوات الغازية للأراضي اللبنانية، ‏ابتداءً من يوم 6 من الشهر ذاته، ثم تقدمت بعد ذلك شمالاً نحو بيروت، وتوقفت عند بلدة خلده جنوبي بيروت، ‏ولم تواجه بمقاومة فاعلة بعد مغادرة، وترك قيادات ومقاتلي المقاومة مواقعهم في تلك المناطق إلى بيروت، في حين لم ‏يواجه أهالي تلك المناطق القوات الاسرائيلية الغازية مقاومة تذكر لأسباب عدة، أبرزها الانتهاكات الواسعة بحق أهالي ‏تلك المناطق وممتلكاتهم، وفي حين ركزت القوات الاسرائيلية مواقعها واستحكاماتها جنوبي بيروت عند بلدة خلده اقامت ‏قوات أخرى منها مواقعها واستحكاماتها في مناطق شرقي بيروت، بدعم ومساندة حزب الكتائب وحزب القوات، ‏وبذلك أحكمت طوق الحصار جنوباً وشرقاً وشمالاً على بيروت، ولم تقع بينها وبين قوات المقاومة ‏الفلسطينية، وقوات الحركة الوطنية اللبنانية، سوى مناوشات بسيطة حتى توقف الحصار بمغادرة القوات ‏الفلسطينة والوطنية اللبنانية بيروت. وقامت القوات الاسرائلية الغازية بعد ذلك باجتياحها وارتكاب مجازر ‏مروعة ودموية إجرامية، لا سيما ضد أهالي المخيمات الفلسطينية، خاصة مخيم وشاتيلا، الذي ‏يقع قرب حي الفاكهاني، الذي أطلق البعض على هذا الحي (جمهورية الفلسطينيين)، لأنه كان مقراً لقياداتها ‏وكوادرها والعاملين في صفوفها، فضلاً عن أسرهم.‏

وخلال فترة الحصار التي استمرت 87 يوماً (واطلق عليه حصار المئة يوم)، فقد مثلت بيروت بأهاليها ‏وبقوات المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية (أيقونة) الصمود والتحدي للقوات الاسرائيلية الغازية، وكان ‏الكلام التعبوي والإعلام والأناشيد الوطنية، تحيي وتمجّد هذا الصمود والاستعداد، لمقاتلة العدو الاسرائلي ‏الغازي، ولطالما وصف بعض الاعلام الفلسطيني الحصار والصمود والاستعداد لمقاتلة العدو، بأنه يشبه حصار ‏مدينة (ستالينغراد) السوفيتية (كان اسمها بطرس بورغ في العهد القيصري، وسميت ( ليننغراد)، بعد انتصار ‏الثورة البلشفية، ثم أطلق عليها اسم (ستالينغراد) بعد صمودها ضد الغزو الالماني النازي في الحرب العالمية ‏الثانية، وعندها كان جوزيف ستالين يرأس الدولة السوفيتية. لقد صمدت (ستالينغراد) 872 بوجه النازية، وبعد ‏الاستعداد لهجوم مضاد وواسع، استمر نحو اربعة اشهر تحررت المدينة وطرد القوات النازية وهزيمتها وكان هذا ‏النصر حاسماً في نهاية الحرب العالمية الثانية. ‏

طبعاً لم تكن هناك أوجه شبه كثيرة لمقارنة صمود بيروت بصمود ستالينغراد، لكن الاعلام الفلسطيني والوطني ‏اللبناني عمد إلى ذلك لرفع المعنويات العالية أصلاً لأهالي العاصمة والقوات المقاومة المستعدة لمواجهة العدو ‏كان الأهالي وكل من هو تحت الحصار يتمتعون بمعنويات عالية وبفرح غامر أساسه الأمل الواعد والقوي ‏بالانتصار، وإرغام العدو على التراجع، وكنت كواحد من مئات الآلاف الصامدين والمتحملين لأعباء الحرب ‏والحصار، مساهماً نشطاً في الإعلام الفلسطيني لحركة (فتح)، ومركزه في منطقة الحمراء، وكنت أجمع ‏كالآخرين بين عملي ومهمتي في الاعلام والتعبئة وبين عائلتي: زوجتي وطفلي، الذي لم يتجاوز العامين حيث ‏كنت أتنقل بهما من مكان لآخر، لانتشار الشائعات الحقيقية والمفبركة بأن قوات العدو ستقصف هذا الحي بعد ‏قليل لوجود (ياسر عرفات) والقيادة الفلسطينية، وشائعات آخرى تتحدث عن احتمال أن تقصف اسرائيل ‏قنابل (فراغية)، تهدم البنايات من أساسها بمن فيها. وهكذا بين هذه الاجواء والاشاعات والعمل الاعلامي ‏ورعاية العائلة لتوفير المواد الغذائية والمستلزمات العائلية تفترض مني وكما من مئات آلاف الأسر القيام ‏بذلك، ولعل ما كان يبدد كل هذه المتاعب والمخاوف هو المعنويات العالية بالصمود وبأمل الانتصار وارغام ‏العدو على التراجع 

والانسحاب.‏

كانت تلك واحدة من الشهادات الحيوية التي تحملها ذاكرة محاصر وربما عشرات الالاف من المحاصرين ‏الذين لا زالت ذاكرتهم طريه عن ايام الحصار.‏ وستكون شهادات المحاصرين متكاملة مع الشهادات المهمة والحيوية، التي سجلها مؤخراً الاستاذ غسان شربل ‏رئيس تحرير صحيفة (الشرق الاوسط) اللندنية ونشرت بحلقات مؤخراً، لأنها تسجل شهادات لقيادات مهمة ‏وبارزة فلسطينية ولبنانية وطنية وحكومية ومسؤولين عرب واجانب عن رؤيتهم لحصار بيروت، وما كان يدور ‏من حوارات وصراعات والحلول المقترحة والمضادة للمبعوث الاميركي والسفير الروسي والمسؤولين اللبنانيين ‏والقادة الفلسطينيين واللبنانيين... إنها شهادات مهمة لصناع القرار وبما تنعشها شهادات ذاكرة المحاصرين.‏