بورصة الصحف تُعاني.. والعاملون فيها يناشدون أمانة بغداد
فجر محمد
تصوير: كرم الاعسم
يستيقظ حسين عبد عليوي المعروف بين الجميع بـ "أبو طيبة" كل صباح ويتوجه إلى مكان عمله، وهو يأمل أن تكون الحال أفضل من سابقتها ويسبق وصوله الى الكشك الذي يبيع فيه الصحف، لقاؤه بزملاء المهنة داخل أحد الكراجات بالعاصمة بغداد، إذ تتوزع مختلف الصحف الورقيَّة على الطاولة وهذه الآليَّة تعرف ببورصة الصحف، ليأتي أبو طيبة ورفاقه لأخذها وبيعها كل منهم في مكانه المعتاد، ولكنهم يطاردون من قبل البلديَّة على الرغم من أن أكشاك البيع التي يستخدمونها نظاميَّة حسب قولهم، لكنهم لم يسلموا من المضايقات.
لا يخفي أبو طيبة قلقه وتوتره من تلك الملاحقات التي يتعرّض لها هو ورفاقه والتي دفعت به إلى طرق الأبواب المختلفة على أمل إنقاذ مهنته التي يزاولها منذ مدة طويلة، ويعبر عن استيائه مما يحدث من مطاردات ومضايقات في مكان عمله من دون وجود أيِّ مبرّر لذلك الأمر.
بحثٌ مستمر
منذ أنْ سقط النظام عام 2003 وإلى يومنا هذا لم يعرف مؤيد الزيدي مهنة سوى الالتحاق ببورصة الصحف وأخذ نصيبه وبيعها على المواطنين، وليس لدى مؤيد كما هي الحال مع زملائه مكانٌ نظاميٌّ فهو ينطلقُ من منزله في الثالثة فجراً ويتوجه إلى أحد الأمكنة التي استأجرها رفقة زملائه بمبلغ عشرة آلاف دينار يوميّاً، لكي يتمكّن من الالتحاق برفاقه وأخذ نسخٍ من الصحيفة لبيعها.
يقاسي مؤيد برد الشتاء وحر الصيف القائظ، ويرافقه قلقه المزمن على مهنته التي يعيلُ منها أسرته، طرق مؤيد ورفاقه أبواباً كثيرة بحثاً عن يدٍ تساعدهم وتوفر لهم مكاناً خاصَّاً ليتمكنوا من العمل براحة وثبات واستقرار، ولكنّه لم يجد ضالته الى الآن.
ولا يخفي مؤيد التراجع الذي تشهده الصحف الورقيَّة اليوم، فأغلب زبائنه من كبار السن أو ممن لم يتمكنوا الى يومنا هذا أنْ يستسيغوا الانترنت وما جلبه للناس من أدواتٍ ووسائل، تتيح للجميع الاطلاع على كلّ الأخبار بسرعة.
ولمن يجهل ما هي بورصة الصحف الورقيَّة فهي آليَّة تمَّ استحداثها، بعد سقوط النظام المباد لبيع الصحف والمجلات المختلفة، وجد العديد من الأفراد ضالتهم في هذه الوسيلة لإعالة أسرهم، ولكنهم يتنقلون باستمرارٍ وليس لديهم مكانٌ ثابتٌ بالرغم من مناشداتهم الدائمة ومنذ أعوام، والوعود التي أطلقت إلّا أنَّ هذا الأمر لم يتحقق وما زالوا يبحثون من دون جدوى.
ولدى توجهنا بالسؤال الى أمانة بغداد للاستفسار عن آليَّة الأكشاك التي قد تكون وسيلة مساعدة لهؤلاء الباعة، كان الرد مقتضباً جدّاً وهو: لقد تمّ إيقاف العمل بهذه الآليّة من دون ذكر الأسباب.
رائحة الورق
يجلس أبو حسام على كرسيّه المعتاد بحديقة منزله، ويمسك بإحدى الصحف ويتصفّحها بفضولٍ بالغٍ ويتنقلُ بين الصفحات بشغفٍ وشوق، فهو لم يألف الى الآن الصحافة الإلكترونيَّة ومواقع التواصل الاجتماعي التي تجلب له الأخبار من كل مكان في التو واللحظة.
إذ ما زال متعلّقاً برائحة الورق والأحبار، ولا يمكن أنْ يعتادَ على النمط الالكتروني ويغادر التقليدي الذي اعتاد عليه منذ أكثر من خمسين عاماً، ويقول أبو حسام وهو يواصل تصفّح الجريدة: "هذه الأوراق تأخذني كل يومٍ الى ذكرياتٍ عشتها، لا سيما اللحظات الأولى التي بدأتُ فيها بالتعرّف على الصحف الورقيَّة التي كانت في ذلك الوقت الأقرب الى الناس". ويرى أنَّ وجود كشكٍ لبيع الصحف والمجلات بالقرب من منطقته السكنيَّة أمرٌ يبعثُ على الأمل والارتياح لبقاء تلك الوسيلة الإعلاميَّة التي يعدُّها الكثير من شباب هذا الجيل قد انقرضت أو قلَّ جمهورها بشكلٍ كبير.
ويرى عميد كلية الآداب في جامعة الإسراء الدكتور مدين عمران التميمي، أنَّ الصحافة الورقيَّة واحدة من أقدم وسائل الإعلام والأكثر تأثيراً في التاريخ، إذ قامت بدورٍ حيويٍ في توجيه وجهات نظر الجماهير ونقل الأخبار والمعلومات، الأمر الذي أسهمَ في زيادة الوعي والمعرفة بشأن الأحداث المحليَّة والعالميَّة، وهذا مكَّن الأفراد من اتخاذ قرارات أفضل في حياتهم اليوميَّة وفهم تأثير الأحداث في مجتمعاتهم، فضلاً عن بناء المجتمعات المستدامة والديمقراطيَّة وحماية حقوق الإنسان والكشف عن الانتهاكات وتوثيقها، التي يعدُّها التميمي فرصةً لتحقيق التوازن والعدالة، فضلاً عن دور الصحافة الرقابي في رصد أنشطة الحكومات والمؤسسات وكشف الفساد والانتهاكات والتجاوزات والممارسات غير القانونيَّة، الأمر الذي يعزز الشفافيَّة والمساءلة في المجتمع كما يمتدُّ تأثيرها إلى مختلف جوانب الحياة اليوميَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة عبر التشجيع على الحوار والتفاهم بين مختلف القوى والأفراد في المجتمع، وتغطية وجهات نظر متنوعة وإطلاع الناس على مختلف القضايا.
العصر الرقمي
لا أستطيع أنْ أضيعَ الوقت في تصفّح الجريدة، في ظل توفر وسيلة الكترونيَّة تستطيع أنْ تجلبَ لي الخبرَ في الحال من مصدره، هكذا عبرت ريفان وليد عن رأيها وتستقي الشابة الجامعيَّة أخبارها من مواقع التواصل الاجتماعي، وخدمات التطبيقات الالكترونيَّة التي تستخدمها الكثير من وسائل الإعلام اليوم، وتبيّن أنَّ الصحافة الورقيَّة تنتمي الى أجيالٍ سابقة ولا تستهوي أقرانها الذين يفضّلون الحداثة والسرعة في نقل الخبر. تتصفّح ريفان هاتفها المحمول كلَّ صباحٍ متنقلة بين الإشعارات التي تصلها من مختلف وسائل الإعلام، وتتابع القول: "عندما أستيقظُ صباحاً أتوجه الى هاتفي المحمول، لكي أعرف ما يدور في العالم من أحداثٍ ومستجدات، وأجد أنَّ هذا الاختراع الالكتروني قد أسهم بوصول المعلومة بسرعة ودقة أيضاً".
تشير المصادر الى تطور تكنولوجيا الاتصالات بشكلٍ كبيرٍ وواضح، خصوصاً نهاية الربع الأخير من القرن العشرين، إذ أصبح للحاسبات الالكترونيَّة دورٌ كبيرٌ جداً في مجال نقل العمل الصحفي على المستويين التحريري والإخراجي، وهذا ما بيّنته مؤلفة كتاب (الصحافة الالكترونيَّة وبِنْيتها على الانترنت) الدكتورة بسنت عبد المحسن. مبيّنة أنَّ ظهور الأنظمة الاتصاليَّة الجديدة أدى الى سرعة نقل المعلومات وتبادلها، فضلاً عن سرعة استرجاع البيانات من قواعدها بصورة فوريَّة، الأمر الذي ترتّبت عليه زيادة الاتصالات بين الأفراد من خلال شبكات الاتصال التفاعلي التي يتيحها الإنترنت.
تراجعٌ ملحوظ
ومن وجهة نظر الدكتور مدين عمران التميمي فإنَّ "الصحافة الورقيَّة شهدت في العقود الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في مبيعاتها، ويعزى ذلك إلى العديد من العوامل منها الانتقال الكبير نحو وسائل الإعلام الرقميَّة وتغيّر أنماط استهلاك المعلومات، فضلاً عن عوامل أخرى منها ظهور شبكة الإنترنت واستخدام الصحافة الإلكترونيَّة، الأمر الذي أدى إلى توفير وصولٍ سهلٍ وسريعٍ إلى المعلومات، ما دفع الجمهور الى الاعتماد على الصحافة الإلكترونيَّة لمعرفة الأخبار والمعلومات بدلاً من الصحف الورقيَّة".
كما يحمّل التميمي "العامل الاقتصادي دوراً أيضاً في هذا الانحسار لأنّه أسهم بدوره في تراجع الإعلانات في الصحف الورقيَّة، الأمر الذي أثر على استدامتها الاقتصاديَّة، إذ بدأ المعلنون في توجيه ميزانياتهم إلى الإعلان عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من الإعلان في الصحف".
كما يورد التميمي أسباباً أخرى لتراجع الصحافة الورقيَّة، ومنها "التكلفة الماليَّة والبيئة؛ إذ تتطلب الصحف تكاليف ماليَّة عالية لإنتاجها وتوزيعها واستهلاك ورقٍ وحبرٍ، فضلاً عن وجود مخاوف بيئيَّة حول تصنيع الورق واستخدام الموارد الطبيعيَّة في صناعة الطباعة".
لافتاً الى أنَّ "الصحافة الإلكترونيَّة ووسائل الإعلام الرقميَّة تقدم سرعة أكبر في نقل الأخبار والمعلومات، فضلاً عن عنصر التفاعليَّة الذي يسهمُ في التفاعل بين الكُتّاب وأكبر عددٍ من القرّاء عبر التعليقات".