د. طه جزاع
التاريخ سيفٌ ذو حدين، وأحداثه يمكن أن تكون للعِبرة والاعتبار . فمن تفاصيل تلك الأحداث وحكاياتها، يمكن للمرء أن يشحذ روح الكراهية والبغضاء ويؤجج رغبة الانتقام في النفوس، في عالم لم يعد يتسع للأحقاد بين البشر، ويكفيه ما يعانيه من كوارث طبيعية وأوبئة وفقر وجوع ومرض. لكن يمكن للمرء أيضاً أن يجعل من تلك الحوادث عبرة لإنسان الحاضر ودرساً في التسامح والمحبة والسلام.
في مثل هذا الشهر أيلول العام الماضي أتيحت لي فرصة حضور المعرض، الذي اقامته كاتدرائية سانت انطونيو الكاثوليكية الواقعة وسط شارع الاستقلال في مدينة اسطنبول، وهو الشارع السياحي الذي يكتظ عادة بآلاف السواح من مختلف بلدان العالم، وضم المعرض لوحاتٍ فنية مع شروحات لكل لوحة، كما فتحت الكاتدرائية أبوابها للزائرين في ذلك اليوم، لإيقاد الشموع وسماع التراتيل الكنسية والتأمل في عجائب الفن المعماري، لهذه الكنيسة التي أنشئت في العام 1906 .
المعرض اقيم لمناسبة مرور أكثر من 800 عام على أول حوار تاريخي مسيحي إسلامي جرى في شهر ايلول من العام 1219 بين القديس فرانسيس الأسيوزي والسلطان الكامل محمد الأيوبي في دمياط .
وعلى الرغم من أن المراجع التاريخية الإسلامية المُعتمَدة، لا تذكر شيئاً عن هذا الحوار، إلا أن المصادر التاريخية الكنسية الكاثوليكية تؤكده، بل وتركز على ما تسميه اختبار النار الذي اقترحه القديس على السلطان، غير أن الأخير لم يوافق عليه، لكنه عامل القديس باحترام واستمع إليه وحاوره، وحمله الهدايا وهو يعود سالماً إلى معسكره .
تقول شروحات اللوحات (شتنبر/ أيلول 219 . عبر الراهب فرانسيس، قادماً من معسكر الصليبيين، الذين يحاصرون معقل المسلمين بدمياط في مصر، صفوف المقاتلين للقاء الملك الكامل، سلطان القاهرة ورئيس جيش الهلال، رحب به الملك واستمع اليه. في نهاية الحوار، استأذن فرانسيس وعاد سالماً إلى المعسكر. ورد هذا الحدث في مصادر تاريخية مختلفة خارجية وداخلية للرهبنة الفرنسيسكانية. على الرغم من أن هذه المصادر لا تتطابق دائماً في التفاصيل والتفسيرات، فإنها تثبت كلها حقيقة اللقاء المباشر بين الأثنين، ويبدو أنها تتلاقى حول نقطة مهمة، وهي أن هذا الحدث - غير المسبوق وغير المتوقع والمثير للدهشة - أثار تعجب المعاصرين).
بغض النظر عن تفاصيل هذا اللقاء وواقعيتها، فهو يؤرخ لمبادرة تاريخية قام بها القديس فرانسيس الأسيزي - على الأقل وفق ما أكدته المصادر الكنسية الفرنسيسكانية - من أجل الحوار السلمي بعيداً عن قعقة السيوف، وسار بشجاعة وايمان بالسلام بين البشر، وتحمل المخاطر ليصل إلى الملك الكامل في دمياط من أجل الحوار، فكان أول حوار بين المسيحية والإسلام .
وترى الناس من كل الأجناس والأديان، يدخلون كاتدرائية سانت انطونيو، ويبادر بعضهم لإيقاد الشموع داخل الكاتدرائية .
ما الذي يخسره المرء، لو أوقد شمعة في محراب المحبة والسلام؟.