د. حنين السلطاني
عندما ابتدأتْ حياة محمد هتلر الفنيَّة، وخاصة في مجال الرسم، كانت أعماله تهتمُّ بتسجيل رؤيتهم للواقع، كالمنظر الطبيعي أو الصور الشخصيَّة، فبدتْ تلك الأعمال مجرد استنساخ ومحاكاة الواقع الخارجي.
أثرت البيئة بعمق في تكوين مخيال الفنان، إذ منح هتلر للمخيال فرصة الظهور في لوحاته الرومانسيَّة التي وجدها ملائمة لرؤيته عن الطبيعة، وهكذا يبني مخياله من قرى الطفولة مدينة في نهاية عالمه الباطني، وكلما تجدّدت أشواقه إليها حقق الرؤية في أعماله مؤكداً على العنصر الشكلي، فقد كانت أعماله تعبر عن الحياة الريفيَّة البسيطة المحمّلة بحبِّ الطبيعة والألوان الخام راصدًا المظهر الخارجي للأشياء من دون اللجوء إلى عالم التقنيات الفنيَّة.
مارس هتلر العمل الفني كوسيلة للمتعة الذاتيَّة ولمحاكاة العالم المرئي وإشباع الأذواق السائدة التي لا ترى في الفن سوى الصورة المعادة للمرئيات من دون أن تبحث عن أيِّ محتوى ثقافي حضاري معين إلّا بصورة غير مقصودة أو هامشيَّة. فقد اهتمَّ بالألوان كثيرًا، إذ يعد أحد الرسّامين الذين شغلوا باللون بحثاً عن عناصر جديدة، فأصبح اللون بالنسبة له غاية ووسيلة في الوقت نفسه، لتمثيل ذاته بما تحسّه اتجاه الأشياء من حولها. تكشف عن خبايا التي إما أن تكون محتوى انفعاليًا، أو تكون أفكاره التي تُخلق في لحظة إلهاميَّة لا شعوريَّة تولد تلقائيًّا وبلا ذات الفنان الواعية.
وبدأت أعمال هتلر تأخذ طابعًا بيئيًّا يكشف عن ولعه بالبيئة الشعبيَّة وبعطرها وأسرارها وذكرياتها وحكاياتها الساذجة القديمة ليضع أجمل لحظاتها في أبسط رموز مجرّدة تنمو داخل إطار عالم اللوحة الفنيَّة. فأخذت النساء تحتل جانبًا كبيرًا في لوحاته بشكل مجاميع لونيَّة تمتدُّ وتتقاطع بتكوينات موحية لمضمون الموضوع متناولًا بساطة التكوين والاختزال في شخصياته وألوانه. فقد منح رسوماته سمة شاعريَّة رومانسيَّة تتخللها القيم الجماليَّة المتأصّلة في ذاته.
أعمال الفنان، ذات ميل إلى عدم الإفصاح عن مكنونات الرؤية لديه، إنّها تُحاط بغلاف تعبيري يكسوه الكتمان والتمويه والايحاء، إذ تكشف أعماله عن جانب نفسي يحاول معالجته من لوحة إلى أخرى ضمن سياق منحى تعبيري عن الحالات النفسيَّة الداخليَّة بواسطة الرمز المعبّر عن الإنسان ومأساته، فالإنسان عنده حالة والرمز هو الموضوع الذي تتجمّع فيه الحالات إن لم تنصهر حالًا، إذ بقي هتلر يحمل الكثير من معاناته وأفراحه ليجسّدها في أعماله الفنيَّة مستوحيًا أفكارها من واقع الحياة اليوميَّة ممثلة بالرموز ذات المنحى العفوي المحمّل بالسمات الفطريَّة النابعة من ذات الفنان من دون مؤثرات خارجيَّة تُعيق تعبيره عنها لتكون ملامح يشار إليها بالصدق والبساطة في المنجزات التصويريَّة لتصبح فيما بعد قوة فنيَّة جديدة في حركة فن الرسم العراقي المعاصر.
برغم التناقضات الأسلوبيَّة العديدة التي مرَّ بها مخيال هتلر، إلّا أنّه كان قد توصّل إلى قناعة مفادها أنَّ الفن الواقعي المرتبط بمخيال واقعي، هو الأكثر تعبيرًا عن مخيال الفنان، وأكثر صلة مع الجمهور إذ نستشعر فيها تعبير عن حالة نفسيَّة واقعيَّة وفي ذات الوقت تأمليَّة، إذ يتجاوز القيمة الواقعيَّة لمصلحة الحالة النفسـيَّة.
وهكذا كانت أفكار الفنان هتلر، تتميّز بخيالٍ عالٍ تجسّد من خلال التحولات في أسلوبه وتقنياته وموضوعاته بما يتناسب مع أسلوبه الفني، فكانت الدعوة إلى الأصالة وإحياء التراث والبحث فيه خيال جديد والاستفادة من رموزه ودلالاته في دعم الحاضر وتأصيل العمل الفني وتحديد خصوصيته وهويته فالاستعدادات للتغيير والتجديد الفني والفكري لدى الفنان جعلته يميل إلى تجسيد المواضيع ذات الأبعاد الإنسانيَّة والسياسيَّة نتيجة التحولات التاريخيَّة في بنية المجتمع والتي كان صداها ينعكس في مخيال الفنان وتحولاته، الأمر الذي اقتضى من الفنان أنْ يبحث عن التكنيك الجديد المنطلق من تحليل الفكر التشكيلي وإعادة تركيبه بما يخدم العملية الإبداعيَّة في الفن بعيدًا عن التكرار أو الاجترار بوصف الفن طاقة عظيمة يجب أنْ يشترك في عملية التجديد والتغيير، فظهرت الكثير من أعمال هتلر ذات المخيال الواقعي منطلقة من أنَّ الالتزام هو ذلك الجانب المرتبط بالعمل الواقعي، فكانت موضوعاته ذات أسلوب واقعي في بداياته الفنيَّة.