فؤاد شاكر يكتب سيرته بين الظلِّ والضوء

ثقافة 2023/09/14
...

  محمد جبير

حمل الكتاب الثاني «فؤاد شاكر – ذاكرة المدينة» من سلسلة موسوعة العراق المصورة التي تصدت إصدارها شبكة الإعلام العراقي، لتنوع اهتمامات هذه السلسلة، وتكون شاملة لتاريخ العراق، واتخذت جانب التوثيق البصري بعيدا عن التوثيق المدوِّن الذي يحمل إشكالاته وتقاطعاته واختلاف وجهات النظر في المناهج والرؤى التحليليّة للمنعطفات التاريخيّة التي لم يتفق عليها كتاب التاريخ في مختلف العصور.

وإذ تقف شبكة الإعلام في هذه الموسوعة المصوّرة موقف الحياد، فإنّها تسعى من خلال ذلك تقديم السرديات البصريّة التي لا يمكن الاختلاف عليها، فالصورة هنا مقطع جمالي مستلّ من حركة الواقع والتاريخ، تلك الحركة المشهديّة التي يراها المصوّر الفنان في جمودها اللحظوي الآني تحمل في داخلها حركتها في الزمان والمكان، كأنّه يعيش اللحظة التي تمّ فيها التقاط تلك الصورة التي يأخذ المتلقّي في إعادة تفاصيل تشكيلها الجمالي.

في ذاكرة المدينة سعى الفنان الراحل فؤاد شاكر الذي زاملنا في العمل المهني سنوات عدّة، وكان مثالًا للمصوّر الفنان الذي يبحث عن اللقطة الفنّية التي تضفي على المادّة الصحفية جمالًا وبهاءً، حتى إنّه في بعض الاحيان يذهب إلى اختيار مجموعة من صوره الخاصّة ذات الموضوع الواحد لتنشر في صفحة منفردة، مؤسّسًا لها جنسًا فنّيًا خاصًّا بها لا يمكن أن تبعده عن الأجناس الأدبيَّة، وإنّما تكون هذه الصور جنسًا مجاورًا، أو متمِّمًا، أو متكاملا مع الأجناس الإبداعيّة الأخرى.

يذكر الدكتور نبيل جاسم – رئيس شبكة الإعلام والمشرف العام على هذه السلسلة في مقدّمته الآتي «من بين المصوّرين الفوتوغرافيين العراقيين، لا أعلم لماذا أتخيّل الراحل فؤاد شاكر كائنًا أسطوريًا»، نعم، إنّه كذلك في فلسفته للحياة، وفي رؤاه الجمالية، فهو لم يكن يشبه أحدًا من زملائه ومجايليه أو حتى من سبقه، فهو لم يكن مثل رمزي أو حازم باك ولا جاسم الزبيدي أو رحيم حسن أو سامي النصراوي وآخرين، ولا كان يشبه نفسه في أحيان كثيرة، فهو كتلة متكوّنة ومنصهرة من الجميع، بخلاصة جمالية خاصّة به وبرؤية استباقية للّقطة البصرية الجامدة.

ويضيف المشرف العام في تقديمه «كان يكتب يومياته بصورة مرئية، استعاض عن اللغة، أو الصوت، بأن يتمشى هادئًا، وئيدًا، بين أزقّة بغداد، ثمّ ببساطة: يجمد اللحظة الدافئة، بلا رتوش، من دون نزعة لأنْ يجعل من الأزقة برجوازية وأنيقة، ولا أن يبالغ بإظهار بؤسها، ولعلّ هذه المنطقة حرجة، أن تكون اللقطة من دون سياق سياسي، أو توجيهي من قِبَل المصوّر، لينقل لنا رأيه بالمدينة بهذه الطريقة».

وفي سياق التشكيل الجمالي لرؤى فؤاد شاكر يقول الدكتور فلاح حسن الخطّاط «إنّ من يتفحص مكامن وزوايا وأسرار – أبنية، أزقة، أسواق، شناشيل، وجوه، وغيرها – تلك الكيانات العيانية فيما يخصّ البيئة، سيرى أو يلمح أفعالًا وسلوكيات إنسانية، فالزقاق المغمر بالضوء، يتيح للرائي إحساسًا بأنّ شخصًا ما سيهمّ بالدخول إليه في أية لحظة، والشرفات لا بدّ أن يطلّ منها كائن ما، فهو يمنحنا فرصة الاختيار والتوقّع لا شعوريا، بفهم حسّي ونفسي من فرط وطأة المدينة عليه وحبّه لها».

ويشكل أفق التوقع لدى متلقّي هذه السرديات البصرية التي يقدّمها فؤاد شاكر ثيمة مركزية تحفّز على التواصل مع جزئيات الصورة لاستكشاف ما خفي وراء ظاهرها، فدائمًا السطح الصوري يشير إلى عمقٍ لا بدّ من اكتشافه في الرحلة ما بين خيطَي الضوء والظلّ، هذه الرحلة التي يرسم خطاها كلّ يوم الفنان فؤاد شاكر في فصول السنة الأربعة في نهارات الصيف والشتاء، راسمًا لنفسه طريقًا ونهجًا خاصًّا في الرؤية البصرية للمكان، والتي زادته عشقًا للصورة وسكن فيها روحًا وقلبًا، وتركت جسده معلّقًا في أزقّتها، ذلك الفنّان الذي لم يسكن يومًا للراحة ويطالب بالعيش الرغيد أو ينتفع مادّيًا منه، وإنّما أراد أن يكتب تاريخه في هذه المدينة عبر أزقّتها وحاراتها وطرقها الضّيقة الملتوية التي لا تسمح للضوء أن يمسّ وجنات صباياها.

من تلك الأماكن التي كانت تعجّ بسحر الحكايات وغرائبيتها يخرج بحصيلة يومية من لقطات متنوّعة، كأنّه يكتب فصلًا من رواية الحياة، أو إنّه يدرك أنّه كان يوثّق سيرته في هذه المدينة التي أحبّها حدَّ الجنون، ليخرج من ظلِّ أزقّتها في يوم صيفي شديد الحرارة ويكتب نهايته على رصيف شارع الرشيد الذي مات فيه حبًّا، لم يفارق المدينة ويرحل عنها من فراش سريره في البيت، وإنّما كانت المدينة كلّها، بيته الواسع وفراشه الأثير رصيف شارع الرشيد، طوبى لك أيّها الفنان المبدع فؤاد شاكر.