حكايةٌ عميقة

ثقافة 2023/09/16
...

 حبيب السامر

الحكاية المخبوءة في فم الرجل مذهلةٌ جدا، يتردد في نطقها على أصدقائه الجالسين على أريكةٍ متهالكةٍ للمقهى المنزوي في زقاقٍ ضيقٍ تنبعث منه روائح مختلفة، كان يفكر كثيرًا في بوحها، الذي تأخر بعض الشيء عن زمنها.
كان يعتقد بحكايةٍ أخرى مفادها لا بد لك أنْ تدرك عمق النهر، الذي تنوي السباحة فيه كي لا تغرق، هكذا ظلّ اعتقاده ملازمًا له طيلة تلك المدة، كيف وهو الذي يتذكر كثيرًا حين تسقط دمعة ابنته الصغيرة في مدينةٍ أخرى يحس بدفئها على وجنتيه، من وقتها وهو يحبس تلك الحكاية في دواخله التي تعتمر بحرائقَ متجمرة، حين قال لها: سأنتظرك في المكان الذي ترغبين، وهو ينظر في عينيها الصافيتين.
فعلًا، لا يريد أن يصف بعض الناس الذين عاشرهم بالعاقين، لاعتقادهم بأن الرحمة تولد الضرر لهؤلاء، ولأنَّ قلبه متسامحٌ مع ذاته والآخرين، ظلّ يبث ابتسامةً مخنوقةً لازمته طويلاً، وهو يخمد تأوهاتِه وقلقَه، لا بدَّ أن يتساءل كي يصل إلى قناعة نصف كاملةٍ، لأنَّ البداية هي كالفجر في أول النهار وكالمعرفة التي تستظل بالسؤال دائما، يتصاعد في رأسه قول جون وليامز" ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقا"
هكذا تتشتت الصورة الغائمة في عينيه، ويبدو لها أكثرَ من ظلٍ متعرجٍ على مساحة البلاط، يتكاثر الضجيج تمامًا في هدأة الليل، لذلك يمر الصوت  سريعا، عابرا مساحات الزقاق الضيق الذي يفضي إلى المقهى القديم.
لماذا تتكرر الصدفة أمامه، كلما عزم على طي تلك الفترة الموحشة، ويحلم مثلَ طفلٍ بريء، يفتش عن حلمه على وسادته، يردد مع نفسه، حين تعصرك الحياة من جهاتها العشر، حتمًا ستبحث عن فسحةٍ ضيقة تحاول أن تنفذ منها نحو الهواء، أو تلجأ إلى الجلوس على حافة النهر، وتنظر طويلًا في قامات النخل، تتأمل نافورات السعف المتدلية، وهي منتشيةٌ بمداعبة الرياح، لترسم ظلالًا مبعثرةً على وجه النهر في هذا الفراغ الممتد من الولادة إلى الممات والطرق المتشعبة، التي سلكها كي يصل إلى هاويةٍ مظلمةٍ قد لا تتسع لظلين، وتعد حبات الدموع المتراكمة في عيني الحياة، ليولد هذا الفراغ اليتيم في غفلةٍ من الضجيج ويتخطى اللحظة المرتجاة، وهي تبث ضوء النجاة وكأن ( بروميثيوس) قد سرق النار من أيدي الأقوياء، هكذا ظلت الحكاية حبيسة قلب الرجل دون التفريط بمكنوناتها وتكويناتها، التي يلجأ إلى دسّها في مخيلة خصبة كلما داهمه اليأس، وتلاشت خطوط الأمل لديه، لكنه ظلَّ أمينًا عليها دون أن ينوّه عنها في كلِّ المحافل التي جمعته بأصحابه تارةً وخصومه تارةً أخرى، وهم يحاولون أن يستدرجوا حديثه بطرقٍ مختلفة كي يصلوا إلى ضالتهم، كان يرغب أن يمسك  نفسه، كلما حاولت الكلمات أن تخرج بعفويةٍ بين شفتيه، يكبح انطلاقتها حين تحاصره الذكريات وتطوقه الآلام يسرد حكايته للنهر، ويعود خفيفًا من ثقل تلك الحكاية التي حملها كل هذه السنوات، وهي تبدأ بكلمةٍ وتنتهي بالكلمة نفسها، ظلَّ اللغز المحير يتردد بين الناس دون أن يكتشف أحدهم هذه الكلمة.