قصائدُ عن البحر

ثقافة 2023/09/16
...

  أديب كمال الدين

أيّ حقيقة تخفيها في أعماقك؟
سألتُ البحر:
أيّ حقيقةٍ تخفيها في أعماقِكَ
أيّها الطّاووس العظيم؟
ضَحِكَ البحرُ وقال:
أنا لا أخفي حقائقَ أو أوهاماً
بل أخفي سمكاً وصخوراً وطحالب،
أخفي سفناً غرقى
وعظامَ صيّادين ومغامرين ومهاجرين.
وأخفي أمواجاً من غضبٍ مكتومٍ عارم.
فهل اقتنعتَ بجوابي
يا هذا المهووس بجمالي؟
صَمتُّ طويلاً.
فالبحرَ قالَ الحقيقةَ عاريةً
من دونِ رتوش،
وأطلقَها قاسيةً
من دونِ لفٍّ أو دوران.
تركتُهُ ومضيتُ إلى مقهى مهجور،
وطلبتُ كوباً من القهوة.
وبدلاً من أنْ أشربَها،
رسمتُ بها، على طاولةِ المقهى،
سمكاً وصخوراً وطحالب
وسفناً غرقى
وعظاماً لأُناسٍ غرقوا
وهم يبكون ويصرخون!

لا أتذكّرُ من البحرِ شيئاً
في كلِّ غروبٍ،
نُصلّي أنا والشّمسُ معاً
بلُغةِ البحر
عندَ شاطئ البحر.
*
لا أتذكّرُ من البحرِ شيئاً
سوى أنّني كنتُ أبحثُ عنكِ
تحتَ شمسهِ الهائلةِ وقتَ الظهيرة
وقد امتلأَ قلبي بحروفِ الشّوق
ونقاطِ الرّغبة.
*
آثارُكِ على الشّاطئ اختفتْ، ففرحتُ.
ثُمَّ انتبهتُ إلى أنّها تحوّلتْ
إلى دموعٍ مُتحجّرة.
يا إلهي، أهي دموعي؟
*
حينَ تلتقي زرقةُ السّماء
بزرقةِ البحر
ما الذي يحدثُ لقصيدةِ حُبّي الزّرقاء؟
*
كيفَ حدثَ أنّكِ ضيعتِني إلى الأبد
كما تُضيّعُ امرأةٌ
طفلَها الوحيدَ في البحر؟
*
كلّما وجدتُ قارباً مَهجوراً
قربَ شاطئ البحر،
توقفّتُ وأخذتُ معهُ صُورةً تذكاريّة.
*
حينَ تنظرين إليَّ من ثقبِ الزّمانِ الطويل،
أتبكين
أم تضحكين
أم ...؟
*
تتكسرُّ الأمواجُ على شاطئ البحر
بسعادةٍ لا تُوصَف.
لماذا؟
ألأنّها تُقبّلُ الشّاطئ
أم لأنَّ الشّاطئ يشاركها التّقبيل
بدفءٍ ولذّةٍ وذهول؟
*
عند شاطئ البحر،
وجدتُ عظاماً عاريَّةً كثيرة
لكنّي وجدتُ أجساداً عاريةًً أكثرَ بكثير.
*
وضعوا للبحرِ سُلّماً
لينزلَ النّاسُ برفقٍ إلى الماء.
كانَ السُّلّمُ طويلاً طويلاً طويلاً
حتّى أنّني حينَ استخدمتُ درجاته الحجريّة
التي لا نهايةَ لها،
أحسستُ أنّي ذاهبٌ إلى المجهول.

البحر السارق
عندَ البحرِ لا أحسُّ بجمالكِ المُثير
ولا أرى بوحَ عينيكِ الغامضتين.
ألأنَّ البحر يسرقُ جمالَكِ أمامي
أم لأنَّكِ تستلمين
لبريقه الذي يفوقُ كلَّ بريق؟

حوارٌ مع موجة
البارحة عندَ شاطئ البحر،
فاجأتني موجةٌ غامضة
ولامستْ بلطفٍ قدميَّ العاريتين.
فتجرّأتُ وسألتُها سؤالاً مُضحكاً:
قلتُ لها: كم عمرك؟
فأجابتْ دونَ ترددٍ:
وُلِدتُ في الزمانِ الذي وُلِدَ فيه
هابيل وقابيل.
صرختُ: منذ أيام هابيل وقابيل!
ألمْ تتعبي؟ ألمْ تسأمي؟ ألمْ...
قاطعتني ضاحكةً:
ما مِن تعبٍ أو سأمٍ
بل متعةٌ هائلةٌ،
فالرحيلُ نبضُ قلبي
والليلُ والنهارُ سنداني ومطرقتي
والبحرُ، كلّ البحرِ، سيني
والبحرُ، كلّ البحرِ، رائي.

كلُّ الطّرق تؤدّي إلى البحر
إذا كنتَ شاعراً
فتذكّرْ أنّكَ صحراء،
كنتَ ولم تزلْ صحراء،
فاذهبْ إلى المرأةِ لتكتملَ وتكتحل.
المرأةُ هي البحر.
اذهبْ إلى البحر،
لا تقلقْ، كلُّ الطّرقِ تؤدّي إلى البحر!
كأنّني لم أسمع بذاكرتي
البحرُ ذاكرتي
والأسماكُ ذكرياتي.
تكاثرتِ الأسماكُ حتّى مَلأتِ البحر
من أقصاه إلى أقصاه،
وحتّى صاحَ البحر:
أنقذْني مِمّا أنا فيه!
فضحكتُ ومضيتُ سريعاً
كأنّني لم أسمعْ بذاكرتي من قبل
ولم أتعذّبْ من ذكرياتي المُرّة
طوالَ حياتي.


حين ينسى البحر نَفْسَه
في الليل
ينسى البحرُ نَفْسَه،
فَيَتسلّلُ إلى المدينةِ الكبيرةِ بهدوء.
أحياناً يتحدّثُ معَ الصّعاليك والمُشرّدين فيها
وأحياناً يمنحُ الشّعراءَ شهادةَ حُبّ
تسخرُ منها النّساءُ حدّ إطلاق القهقهات.

ثبات
الأرضُ تشبهُ القمر
والقمر يشبهُ النّجوم
والنّجوم تشبهُ البحر.
لكنَّ البحرَ لا يشبهني أبداً
فهو يتحرّكُ ليلَ نهار
وأنا ثابتٌ لا أتزحزح.


قصيدة زرقاء
بقُبَّعةٍ من حروف
وقميصٍ من نُقاط
ذهبتُ للقاءِ البحر،
فلم أجد البحرَ في مكانه.
بل وجدتُ قصيدةً عظيمةً زرقاء
مكتوبةً بآلافِ الحروف
ونقطةٍ واحدة.