كاظم لفتة جبر
يعتمد فرض القيادة على أمرين، الأول المعرفة، والثاني القوة، ففي الأول تكون القيادة نسبية، أما في الثاني فتكون مطلقة. ففي البدء كان الإنسان قليل المعرفة، يعتريه الخوف من قوى الطبيعة والوحوش، ونتيجة لذلك الخوف جعل من الطبيعة آلهة وعبدها، وعمل لها الطقوس والنذور. وما أن تأكد من هدوء الآلهة والطبيعة ورضاها عنه حتى أخذ يهتم لأمر الزراعة وتجميع الثروة، فحصلت الفوارق بين البشر، وبين من يمتلك الأرض، والآخر العامل فيها، وعلى أيديهم بدأت مرحلة أخرى من القيادة والسلطة لفرد على أفراد.
ثم بعد الظلم والتفاوت الكبير في امتلاك الثروات بدء ظهور الحركات الثورية والمناهضة لسلطة وقيادة ملاك الأراضي. وهذا ما بيّنه ماركس في الصراع الطبيعي والاجتماعي بين الطبقات، بسبب اختلاف الميول والاهتمامات والرغبات كلا بحسب مصالحة الاقتصاديَّة. وبعد تعدد الطبقات الاجتماعية من ملاك وفلاحين ومناهضين، توجب ايجاد قوى قانونية تساهم في ضبط المجتمع وتوزيع الثروات بين الناس فتأسست الدولة، وكان الملك هو الحاكم لكل شيء على الأرض من موارد طبيعية وزراعية وبشر.
وبهذا لا يمكن فصل المعرفة عن السلطة وهذا ما عبر عنه فوكو في كتابة (نيتشه، الجينيالوجيا والتاريخ) مبيناً أن المعرفة لم تخلق لأجل الفهم، وانما لأجل التكسير والحسم، وهذا يوضح وهمية الحياد المعرفي، ففي المعرفة تتصارع الأهواء والرغبات والمصالح وعلاقات قوى.
ولنفس السبب جعل سلطة أثينا بقيادة السفسطائيين تحكم على سقراط بالإعدام نتيجة توجسهم الخوف من انه يملك معرفة تجعله يملك السلطة على المجتمع والشباب خاصة، ويسحبها من تحت أرجلهم. وبذلك بدأت حركة الصراع بين المعرفة والسلطة وقد تمدد ذلك الصراع على مر التاريخ إلى يومنا هذا، بين المعرفة والسلطة فالكثير من الفلاسفة والمفكرين والعلماء والمبدعين والفنانين لاقوا حذفهم نتيجة قيود السلطة سواء كانت سياسية أو دينية، التي ترى بأنها تملك المعرفة الحقة. فالمعرفة عند السلطة ليست حيادية لأنها تخضع للمصالح والرغبات والأهواء السيطرة، بعكس المعرفة عند الفرد فإنه بحث عن حقيقية ما، أو عن خلاص وليس الغرض منها فرض سيطرة وقوة.
لذلك تكلف التاريخ عناء الصراعات، وما هي إلا صيرورة إنتاج للفكر وخلاص لطبقة من سيطرة طبقة أخرى، مثلما يسعى الإنسان في نفسه خلافة الأرض والسيطرة على الكون وما في. فالصراع المعرفي الذي حدث على مرور التاريخ هو صراع لغرض القيادة، سواء كان بدائيا بين الإنسان والطبيعة، أو حديثا بين الإنسان والآخر، أو معاصرا بين الإنسان والآلهة، سواء كانت سماوية أو أرضية وضعية.
ففي العصر الحديث وخصوصاً في عصر التنوير انتقل الإنسان من الاعتماد على الدين والكنيسة إلى الوثوق بالعقل، وبذلك تسلم العقل مقاليد الحكم على الأشياء، فخاض أعتى المعارك الفكرية التي كانت نتيجته الوصول للقمر، ومعرفة كيف تدار دفة الكون من الأعلى. فتمسك بالأسباب ورفض الاسطورة والخرافة، وأصبح لكل شيء علم يقاس به صحة المعلومات وثباتها.
فكل اكتشاف أو معرفة جديدة تضاف في حقل من حقول العلوم هو تعبير عن فرض سيطرة لقوة الإنسان الفكرية للسيطرة على الكون والطبيعة.
لذلك سعت كل الحكومات في العصر الحديث وما بعده (المعاصر) على دعم المشاريع الفكرية لتدعيم سيطرتها، فبعد أن كانت الكنيسة تدعم سلطتها من خلال الانجيل، أصبحت الدول اليوم تدعم سلطتها بقوة العلم والتكنولوجيا، وهذا هو العامل الفارق بين الدول المتقدمة والدول النامية. فالتقدم المعرفي والتكنولوجي للعلم أدى بثماره لصالح الإنسان بالسيطرة على الكون والموارد الطبيعية، فبعد أن كان يهاب الطبيعة أصبح يتلاعب بها، ويسخرها مثلما يريد هو، بعد معرفته الأسباب والمسببات.
لكن يكمن السؤال الفلسفي في ذلك الشأن، هل يستطيع الإنسان محاكاة الدقة والنظام الإلهي من خلال التكنولوجيا والعلم؟ ما هو المبرر الذي يجعلنا نطمئن لقيادة تتحكم بها الأهواء والرغبات والمصالح السياسية؟ وهل ما يحدث من تغير مناخي، والنشاط غير الطبيعي للزلازل، والفيضانات، والأعاصير، الاحتباس الحراري، وانتشار الأمراض والأوبئة يعبر عن ثورة للطبيعة على الانسان؟ فالخلافة الإنسانيَّة للأرض التي دعا لها الله في كتابة الكريم ماهي إلا دعوه لرعاية الأرض والمحافظة عليها واعمارها واصلاح ما فسد فيها، وليس فرض إرادته ورغباته عليها.