حين كانت الروايةُ خطيرةً
ليو بنَديكتس
ترجمة: د. فارس عزيز المدرس
في مساء يوم الأربعاء فبراير 1762 التقت كيتي هانتر 22 عاماً بهنري هربرت؛ في حفل أقيم في منزل اللورد ميدلتون في لندن. كان هربرت متزوجاً ويبلغ 27 عاماً؛ وله طفل عمره عامان. لم يتناول هنري العشاء مع أسرة زوجته؛ وأمضى الليل في كتابة خطابات الاستقالة، وشراء زي بحار وشعر مستعار. وفي اليوم التالي هرب مع كيتي إلى هولندا، مما أثار ضجّة في إنجلترا. بعد تسعة أشهر عادت كيتي إلى المنزل وحيدة وحاملا؛ لتبدأ مفاوضات إعالة الطفل.
ما الذي دفع كيتي إلى الهروب مع رجلٍ مُتزوجٍ عرفتْهُ لبضع ساعات!؟. كان لدى إحدى معارفِها (إليزابيث مونتاجو) نظريةٌ مفادُها أنَ سببَ هربِها قراءتُها الروايات، فهل الرواياتُ سيئةٌ بالفعل؟، هذا ما اعتقده قسم مِن الناس آنذاك، إذ انتشرت القراءةُ والكتابةُ منذ القرن الثامن عشر؛ الأمر الذي استدعى أنْ تقومَ الروايةُ بتغذيةِ أذواقِ القرّاء. وهكذا انتشرتُ حكاياتُ النساءِ اللواتي خرقنَ تقاليد المجتمع(*)، وقيلَ صار البعضُ منهن يكافِحن لمغادرة منازلهن، تأثراً بنمط الروايات التي قرأْنها.
أخذت الروايةُ تنتشر سريعاً، وتروي قصصاً مثيرةً بنثر بسيطٍ؛ وليس شعراً، ولم يكن أبطالهم ملوكاً أو أنصاف آلهة، بل خادمات وبحارة؛ وعمال ... أناس عاديون؛ مِن الذين بدلاً مِن القيام بمهامٍ سحريةٍ واجهوا التحديات الداخلية التي عرفها الناسُ في حياتهم الخاصة.
كانت أحداثُ الروايةِ الإنجليزية في القرن الثامن عشر تدور تقريباً حول الجنس والتسلّق الاجتماعي، وكان الإقبالُ على الكتب حينها منخفضاً نسبياً؛ لكنَّ المكتباتِ التي تبيع الروايات حافظت على إمداد جمهورها المدمن عليها. وبحلول نهاية القرن وصلت الأمورُ إلى نوع مِن الذعر بين الطبقات المتعلمة، وكان الشعورُ السائدُ هو أنَّ الرواياتِ إلى جانبِ كونِها مضيعةً للوقت فهي تشوِّهُ نظرةَ الشباب إلى الحياة الحقيقيّة!.
كتبت هانا مور عام 1799: “إن الروايات تضعِف قوة المقاومة العقليّة، مما يجعل العقلَ معرّضاً للخطأ والإغواء”، بل كتبت ماري ولستونكرفت الناشطة النسويّة المبكرة، أنَّ الروايات والموسيقى والشعر تميل إلى جعل النساء قلقاتِ الإحساس، ومن ثمَّ تتشكّل شخصيتهن في قالب الحماقة. وبعد تحذير مُسبق قامت ابنتُها علاقة غراميّة مع شاعر متزوج ومخادع، هربت معه إلى سويسرا، ثم كتبت فرانكنشتاين.
التاريخ يجعل مِن شخوص الرواية أبطالاً، ويخبرنا عن الانتصارات التي تحققت بشجاعة، وربما بطريقة قذرة، كما هو الحال فيما ذهبت إليه مدام بوفاري (من كبار منظِّري الأدب)، وكان ذلك العصر الذهبي للرواية. ثم أعقب ذلك رأيٌ آخر حول الموت المزعوم للرواية، وهي مجادلةٌ مستمرةً. وأرى مِن العدل أنْ نقول إنه في العصر الحاضر عندما يبحث الناس عن الترفيه فالروايات أقلُّ بروزاً مما كانت عليه سابقاً؛ ومن الصعب قياس شعبية الكتب بشكل عام، ناهيك عن الروايات، والأرقام تُظهر أنَّ الرواية صارت تستحوذ على حصة متضائلة لدى الناس؛ نظراً لوصول الراديو والتلفاز والألعاب والهاتف الذكي للتنافس على الفضاء بجوار المدفأة أو في القطار.ومع ذلك فالروايةُ ليست قريبة من الاختفاء؛ فدراسة الروايات إلزاميُّ في المدارس، ويقرأها عددٌ كبيرٌ من الناس لدعم صناعةٍ تبلغ قيمتها مليارات الدولارات إذ تتحول إلى مسلسلات وأفلام لها انتشار واسع. وباختصار فالروايةُ تسير على ما يُرام، ويجري دعمها من خلال مؤسساتٍ كبيرة في المملكة المتحدة، أو مِن خلال ترويج الاقتباسات منها.
ومِن المضحك أنَّ تهمة القدرةِ على تشكيل مدمنين والتلاعب بهم؛ والتي كانت في السابق تُهماً ضد الرواية أصبحت الآن نقاطَ دفاعٍ عنها؛ فالرواياتُ بالفعل غير عادية. ومن دون أصوات أو صور؛ وهي تستخدم الكلماتِ فحسبُ للحثِّ على نوع مِن الحلم الموجّه، الذي يشبه برمجات عقليّة. وتشيرُ بعضُ الأبحاث إلى أنَّ القراءةَ تعزّز قدرتَك على التعاطف، أو تدعم ما يسميه علماء النفس “نظرية العقل”، والأشخاصُ الذين قرأوا القصص الأدبيّة القصيرة كانوا أفضل في قراءة تعبيرات الوجه. ومع ذلك فهذا مجالُ دراسةٍ متنامٍ، حيث يمكن لِمحبي الروايةِ العثورُ على الكثير مِن البيانات المفيدة، إذ تساعدنا الرواياتُ على فهم الناس، وتُظهر إمكانيةِ أنْ يكون المرء شخصاً آخر. وإذا كان صحيحاً أنَّ الرواياتِ تزيد التعاطفَ؛ ومن ثم تقلِّل من القسوة، فهي ليست مفيدةً للقراءِ فحسب، بل للجميع. ويمكن أنْ تحسِّنَ تعاطفَنا مع أنواع الأشخاص الذين غالباً ما يتمُّ تشويههم أو تجاهلهم. في إحدى محاضرتها أوضحتْ الكاتبةُ أديتشي وجهة نظرها بأنّ الرواياتِ يمكن أنْ تساعدَ في تبديدِ الصور النمطيّة عن “الأفارقة”، من خلال أخذ الناس إلى ما هو أبعد مِن القصص الفردية للمجاعاتِ والحرب. وعلى الرغم من كونها خيالية فالرواياتُ يمكن أنْ تقدمَ للقرّاءِ معلوماتٍ حقيقيّة عن الواقع؛ حالُها حالُ التاريخ أو الصحافة.أتذكر أنني قرأت كتاب تشينوا أتشيبي (الأشياء تتداعى) وشعرتُ بعد ذلك بأنني عرفتُ كيف كانت الحياةُ في ريف نيجيريا في تسعينيات القرن التاسع عشر. وبعد قراءةِ كتابِ سيباستيان باري Sebastian Barry (طريق طويل)، شعرتُ بأنني أعرف ماذا يعني القتالُ في الخنادق. ولكن إذا كانت الرواياتُ قادرةً على فعل الخير، فيمكن أنْ تُسببَ الأذى، وهو أمرٌ لا يمكن الشعورُ به مباشرةً. وإذا كانت الرواياتُ قادرةٌ على إظهارِ الحقيقة حول العالم؛ فمِن الأفضل أنْ نفهمها بشكلٍ صحيح.كانت روايةُ (كوخ العم توم 1852) لـ هارييت ستو الرواية الأكثر مبيعاً في القرن التاسع عشر، وربما الأكثر تأثيراً على الإطلاق. لقد أشعلت الروايةُ مشاعرَ حركةِ إلغاء العبوديّة، وساعدت في إشعال الحرب الأهلية؛ من خلال جعل ملايين القرّاءِ البيض يعتقدون أنهم يعرفون ما يُعانيه السود من العبوديّة. ولمدةٍ طويلة بدا أنه إذا كانت هناك روايةٌ حقَّقت نجاحاً كبيراً فهي رواية (كوخ العم توم).
لاحقاً أصبحت هذه الرواية – بقراءة اليوم - سيئةُ السمعة، فهي مخزن للصور النمطية المصدَّرة إلى العالم عن السود. لقد وجَّهت ستو قرَّاءها إلى التعاطف مع العبيد، والدموع في أعينهم. لكنّ شخصيات ستو تشبه الحيوانات الأليفة التي تتعرض لسوء المعاملة أكثر مِن كونها أشخاصاً يتعرّضون لسوء المعاملة، إنها شخصيات ذليلة بسيطة، سهلة الانقياد، طفولية وحنونة، وهذه معلومات كاذبة وضارة.نُشر العديد من مذكرات العبيد الحقيقيين في ذلك الوقت، وكانت مذكرات فريدريك دوغلاس وويليام وسولومون نورثوب من أكثر الكتب مبيعاً، ولكن لا شيء يمكن أنْ ينافس الرسوم الكاريكاتورية العاطفيّة في (كوخ العم توم). وربما كان حجمُ التعاطف الذي يتطلَّبه الواقع أكبر مما يستطيع القرّاء تحمُّله دفعةً واحدة. ومن أجل تجنّبِ فشل خيالهم؛ فقد تخيلوا بفارغ الصبر شيئاً آخر. وهذه هي مشكلة الروايات، إذ يمكنك من خلالها إظهارُ الحقيقةِ التي يريد القرّاء رؤيتها، وليست بالضرورة تلك التي يحتاجون إليها.
هناك مشكلة أخرى أكثرُ جوهريَّة أثارها ليونيل شرايفر في خطابٍ ألقاهُ قبل عامين، وربما نجد صعوبةً في استيعابها؛ ومفادها: أنَّ الخيالَ ليس صحيحاً دوماً!، والشخصيات هي اختراعاتٌ!، وأي نقاشٍ حول مدى دقتِها هو نقاش زائف. نعم الروايات ليست حقيقيّة، لكنها قد تبدو حقيقيّة؛ وعلى الروائيين أنْ يعرفوا ذلك. ونحن الروائيين أكثر درايةٍ مِن أيِّ شخص آخر باختراع شخصياتنا، والأمرُ محيِّرٌ للغاية في تقييم مدى فعالية حُزم كلماتنا بالنسبة للآخرين، فقد تتحوَّل أخيلةٍ الكاتب إلى وقائعَ في ثقافةِ القرّاء وسلوكهم. غالباً ما أتخيل أنَّ إدراك المؤلف للذنب في هذه النقطة يجعله يعترف بخداعه القرّاء، مثل دُون كيشوت وكاثرين مورلاند وإيما بوفاري، الذين حذرونا من وضع ثقتنا بالخيال. وفي النهاية هذه هي قوة الروايات، في جعل جميع المعنيين يسيئون فهم ماهيتها.
لماذا أكتبُ للناس؟، هذا السؤال يستحوذ عليَّ بوصفي روائياً؛ فأنا أحبُّ ذلك وأكرهه، ولا أحدَ يسأل لماذا أكتب للتلفزيون، أكتبُ لأنّ الناس يحبون التلفزيون. هذا هو الغالب والدافع لدى أغلب الروائيين. ومن الواضح أنَّ بعض الروائيين الأكثر شهرة في العالم لديهم شكوكُهم حول الخيال، وبدلاً من ذلك فهم يكتبون مذكرات قريبة، قرأتُها بفارغ الصبر وأكاد أصدقها، مع ذلك، يبدو أنها مكتوبة للسبب نفسه الذي جعلني أكتب روايتي، وهو السببُ نفسُه الذي يدفع كلَّ روائيٍّ إلى ذلك؛ على ما أعتقد؛ فأنا لا أكتبُ الروايات لأنني أريد أنْ أخبر الناس عن العالم. أريد أنْ أخبرهم عني.
هناك التقاء حقيقي واحد يمكن العثور عليه في كلَّ رواية؛ فأثناء قراءتك للرواية تقوم البرمجة العقلية بتحويل جزء مِن عقلك إلى محاكاة غامضة لعقل المؤلف. وهذا مثيرٌ بشكل غريب، إذ يجب أنْ يكونَ الأمرُ كذلك، وإلا فلن تتطوع للتجربة، أو قد تتوقف. هناك ملذات على الجانب الآخر أيضاً. جميلٌ هو التفكير الذي يشغل عقول الناس. هل هو سيء بالنسبة لك؟ لأيّ منا؟ كلّ ما يهم هو أننا شعرنا به معاً لبعض الوقت، أنت وأنا.
عن موقع (CrimeReads)
(Endnotes)
(*) هناك أسبابٌ لا يذكرها الكاتب؛ أسهمت في هذا، منها ضيقٌ البريطانيين بصرامة العصر الفكتوري وما سبقه، وجمود الآداب والفنون فيهما. وانتشار الروح المادي بتدفق الثروة الاستعمارية، والصناعة. ثم الحركة الطهرية «بيوريتانزم» التي دعت إلى التقشف وكراهة الفنون والابتعاد عن الملاهي، فتعطش الناسُ إلى قصصِ الخلاص مِن الجمود والتشدد. (المترجم).