فالتر بنيامين : كلمات خفيّة في كتاب الحياة

ثقافة 2023/09/17
...

 لؤي حمزة عباس 

                                                                                                                                                         

 وقد لعب بنيامين، بتعبير راينير روشليتز، دور «مرشد روحي» لاتجاهات جماليّة متعددة في تطلّعها لمتغيّر الفن الأدبي وآفاقه النظرية في النصف الأول من القرن العشرين، كما اكتسب عمله منزلة «إنجيل فكري» بما ميّزه من قدرة تأمل وصياغة أعانته على النظر إلى مستقبل الكتابة وفنون القول والتصوير، وقد حانت اللحظة التي يُتعرّف فيها على فالتر بنيامين كمؤلف كلاسيكي بقوّته وضعفه، وكمنقّب عن إشكاليات متعدّدة في الفوتوغراف والسينما، في العمارة والمدينة، كما يُنظر له كمستكشف للأجناس الأدبية والأساليب. وما صدور كتابه (شارع ذو اتجاه واحد) في أكثر من لغة، ومنها العربية، إلا جانب من جوانب الاهتمام العالمي بمؤلفاته التي نظرت إلى الأعمال المكتملة على أنها «أقل وزناً بالنسبة للأشخاص العظام من تلك الشذرات التي يستمر عملهم عليها طوال حياتهم»، لتبدو جملته بدقتها وتركيزها العميق تلخيصاً لدأب معرفي لم تكن العبقرية معه غير كدح دؤوب، هذا الكدح الذي منح الوقائع اليوميّة للكتابة وأفعالها دوراً مؤثراً في الفاعليّة الأدبيّة وهي تتطوّر، بالنسبة له، في النشرات والكتيبات، ومقالات الصحف، ولافتات الإعلانات، تلك الأشكال المتواضعة التي تلائم تأثيرها في التجمعات النشطة على نحو أفضل من الإيماءة المتكلّفة والكلية، رسمية الطابع للكتاب، من دون أن يتخلّى بنيامين في كتابه عن دور المتأمل الفلسفي الذي تخضع ضروب الإبداع لديه، بما فيها الكتابة، للنظر الهادئ أسوة بممارسة الحياة نفسها والخوض في تجاربها غير المنتهية، وهو بذلك يُلخّص ما يتضمنه جهد كتابة نثر جيد بثلاث مراحل: «مرحلة موسيقية، يتم فيها توليفه، ومرحلة معمارية، يتم فيها بناؤه، وأخيراً مرحلة نسجية، تتم فيها حياكته». إلى جانب عمق نظرته في جغرافيا العلاقات الإنسانية حيث «الأغلبية يفتشون في الحب عن وطن أبدي. لكن آخرين، بالغي القلّة، يفتشون عن رحلة أبدية»، لتكون الرحلة الإنسانية بأصدائها وتماهياتها هي ما يشغل فالتر بنيامين، مبتكر الأشكال الأدبية، وجامع التحف، والمتخصص في كتب الأطفال، إن شعوراً عميقاً ينبثق مثل ضوء خاطف من بين الكلمات، يمتدّ ويتكشّف مع الأسطر القليلة وهو يلمس مواطن مختلفة في التجربة الإنسانية تعمّقها المعرفة وهي تُخضع التقاطات التجربة لاستبصار الخيال، في سبيل إدراك أعمق لوقائع شكّلت محفّزاً دائماً لإنتاج السؤال، ديمومة المعرفة وأفق تواصلها، «حين يموت كائن شديد القرب منا، فثمة، في تحولات الشهور التالية، شيء ما، متعة ما كنا نودُّ لو اقتسمناها معه، نُدرك بشكل غائم أنه ما كان ليحدث إلا في غيابه. وينتهي بنا الأمر إلى أن نحيِّيه بلغة لم يعد يفهمها».. 

إنَّ التجربة تستعين بالتذكر في سبيل إحياء الواقعة وإضاءة تفصيلاتها حتى لينظر إلى التجربة كما ينظر إلى التذكّر فهما «مثل أشعة فوق بنفسجية، تكشف لكل واحد في كتاب الحياة عن كتابة خفيّة، تفسّر النص مثل نبوءة»، وهي النبوءة التي يتركها بنيامين مخبأة بين سطور كتابه وهو يسرد أحد أحلامه التي تتحرّك بين التجربة الروحية والتذكّر، بين النبوءة والإيعاز وهما يختمان حياته: 

«في حلم انتحرتُ ببندقية. حين انطلقت الرصاصةُ، لم أستيقظ، ورأيتني خلال برهةٍ ممدَّداً مثل جثة. ولم أستيقظ إلا فيما بعد».