مفهوم القارئ الضمني في مسرح «عدالت آغا أوغلو»

ثقافة 2023/09/18
...

 أ.د. عامر صباح المرزوك

تعد الشاعرة والقاصة والروائيّة والكاتبة المسرحيّة التركيّة (عدالت آغا أوغلو 1929 - 2020) واحدةً من أهم المبدعين في الأدب التركي في القرن العشرين، فازت بجوائز عدة، وظهرت أعمالها الأدبية منذ بواكير عمرها.
لقد تعددت المسرحيات واتجاهاتها التي كتبتها (عدالت) في غضون سنوات عاشتها، مؤمنة بالفن المسرحي، وما يحمل من نقد للسلطة السياسيّة، والنظام الاجتماعي السائد، حتى منعت بعض مسرحياتها من العرض، وصودرت بعض من كتبها، وحوكمت لأسباب سياسيّة، وأصابها الكثير إبان استيلاء الجيش على السلطة أكثر من مرة في القرن الماضي.
ركّزت (عدالت) على شخصية المرأة كجزء من المجتمع، لا يمكن الانسلاخ عنه، مناقشة قضاياها، ومدى تأثير المجتمع عليها، سواء أكان من سكان القرية أم المدينة، ومدى انعكاس ذلك نفسيًّا، من خلال تفسير الأنظمة والقوانين التي تربطها بصلات متعددة. ابتعدت (عدالت) عن الشكل الدرامي التقليدي، ولجأت إلى تحفيز ذهنيّة المتلقي واستفزاز ذاكرته، وإرغامه بقوة الضجيج والصخب، مشاركة المتلقي في اتخاذ القرار أزاء العالم الذي يعيشه، رافضة الأسس الثقافيَّة والسياسيَّة للعالم القديم، عالم الحروب، والمنافسات الدمويَّة، وسحق الفرد، وتغذية عقول الناس بالخرافات والأوهام.بدأت حياتها العملية مترجمة وكاتبة للدراما في قطاع الإذاعة والتلفزيون التركي فور تخرُّجها عام 1951، حتى وصلت إلى رئاسة القطاع، وظلَّت تعمل به حتى دفعتها التدخلات السياسيّة في ظلّ الحكم العسكري للاستقالة عام 1970، وأسهمت فيما بعد بتأسيس جمعية حقوق الإنسان في تركيا، مشيدة بدور أول رئيس للجمهورية التركية (مصطفى كمال آتاتورك 1881- 1938) بقولها: لولا قرار (أتاتورك) بحبس كلّ من لا يرسل بناته إلى المدرسة؛ ما كنتُ تعلَّمتُ، وأصبحتُ كاتبة. لكن التغيير الجذري من دون بنية تحتية، هو شيء خطير، فقرار تغيير الحروف من العثمانية إلى اللاتينية جعل مثقّفي الأمس جَهَلة!، تخيَّل أن تكون مثقّفًا، وفي اليوم التالي لا تستطيع القراءة، حتى اسمك لا تعرف كيف تكتبه.سافرت إلى باريس وميونخ لتدرس فن التأليف المسرحي وتنمي مهاراتها في الكتابة، وبقيت مستمرة بالكتابة واخذت شهرة عالمية، فضلا عن مشاركتها بتأسيس مسرح الميدان وهو أول مسرح خاص في أنقرة عام 1960، واصدرت مجلة بالعنوان نفسه متخصصة في النقد المسرحي، وبقيت تصدر حتى عام 1972، وبخصوص تجربتها في مسرح الميدان قالت: لقد تعلمت الكثير من خلال مسرح الميدان فضلا عن التأليف المسرحي والديكور بقلة الموارد والإخراج والتمثيل، فقد قمت بتنظيم صالة المسرح واهتممت بشؤون المطبخ وحتى تنظيف الحمامات. كما جبت شوارع أنقرة على ظهر سيارات الأجرة بغرض الدعاية الإعلانية لنشاط المسرح. اضطرت خلال فترات الاحكام العرفية إلى الكتابة بأسماء مستعارة مثل: ريمو تيالادا، وباركر كوينك، ورُفعت عليها دعوى بتهمة تحقير الجيش والإساءة إليه، واستمرت الدعوى على مدى عامين، لتُبرَّأ بعد ذلك من تلك التهمة، بعد زوال الاحكام العرفية، وهذا ما جعلها تهتم بالطبقة المتوسطة كفكرة رئيسية في أعمالها سواء في المسرح أو الرواية أو القصة القصيرة، مجسدةً ما عاشته من ويلات خلال المراحل السياسيّة المضطربة، وتعرض بانتقاد واقعي التغييرات الفكريّة، والتوجه الأعمى نحو الغرب، والحداثة السطحيّة غير المدروسة في خمسينيات القرن المنصرم. تعرّضت (عدالت) في تموز من عام 1996 إلى حادث سيارة ألقى بها في البحر، لترقد أكثر من عامين في المستشفى، وعلَّقت في يوميَّاتها: كانت أيَّامًا عصيبة، كأنها زلزال مدمِّر، قاتلت فيها وحدي. كانت كالحياة تحت الأنقاض. لقد رأيت جنازتي!، وعدتُ مرّة أخرى، بفضل محبِيَّ وقرّائي وأطبّائي. وفي ذلك الحين، عرفتُ أن الكاتب لا يستطيع كتابة ألمه، ولا يأسه الخاصّ. فقط، يستطيع كتابة آلام الآخرين.
كتبت مجموعة من الأعمال المسرحية: (بينغو) 1963، (لعبة العائلة) 1964، (موت بطل) 1968، (على الحدود) 1969، (صدع في السطح) 1969، (الخروج) 1970، (الشرانق) 1971، (الأغنية التي كتبت نفسها) 1976، (بعيد جدًا – قريب جدًا) 1991، (قصة جدار) 1992، (وردة أفكاري الرقيقة) 1996، (سمسار عصرنا) 2011.
تلجأ (عدالت) في كتابة نصوصها إلى مجموعة من الأدوات الإجرائيَّة، لعل أهمها مفهوم (القارئ الضمني)، الذي يبين من خلاله ارتباط القارئ بالعالم الداخلي للنص، وكيفية توجيه النص للقارئ أثناء بنائها للمعنى التأويلي، من خلال المحافظة على المنظور النقدي، مع الإشارة إلى الهيكل النمطي للمجتمع، والسعي إلى كشف الآليات التي تعزز هذه الصور النمطيَّة، من دون أن تفرض أفكارها الخاصة في النص، كي تسمح للقارئ في المشاركة في بلورة المعنى، والسعي إلى كشف الغامض والمستتر من خلال الواضح المكشوف، أي اكتشاف ما لم يقله النص.
تضمنت مسرحيات (عدالت) صورًا رمزيَّة وخياليَّة، تتجاوز أنماط المسرح التقليدي، تتشابه من واقع الحياة بصورة تجريديَّة، مشيرة إلى قوة السلطة ودورها في تهميش دور المرأة، حيث ترى أن المرأة هي الأشد شعورًا بالعيش مقيدة ومحرومة من إثبات ذاتها. كما أن المرأة سجينة التبعيّة الاقتصاديّة، والتقاليد، وأنماط العلاقة ما بينها والرجل، وتعمل الكاتبة على هذا المسار في مسرحياتها للتنفير منه وتمثيله من زوايا مختلفة، عن بعد وعن كثب، من الداخل والخارج، والغور في أعماق اللاوعي. وهكذا تغوص (عدالت) في أعماق مشكلات المرأة ذات العلاقة مع القوى المهيمنة، متحاشية الوقوع في الخطاب الخاطئ والإذعان للنظام البطركي، وتتناول الأبعاد النفسيّة والفكريّة بالتوغل في أعماق اللاوعي لشخوص المرأة في مسرحيتها، لتعرض حياتها الخاصة في ظل النظام الاجتماعي القائم، مع التنويه إلى حالات لم تتمكن فيها المرأة من تمييز حقيقة واقعها، فتتابع نمط حياتها المفروضة عليها، وتقبلها له كأمر واقع.
نُقلت (عدالت) إلى المستشفى بسبب خلل متعدد في وظائف الجسم، وتوفيت يوم 15/7/2020، وخرجت جنازتها من جامعة بوغازتشي في إسطنبول إلى مقبرة سيبيتشي أسري في أنقرة، ورثاها وزير الصحة التركي بقوله: ذبلت زهرة خيالنا الرقيقة. كما كتب المؤرخ التركي (ألبير أوتايلي) مقالًا في جريدة (حريت) جاء منه: كانت الأطول عمرًا بين كتّاب الأدب الحديث، متَّقدة الذهن، تكتب وتناقش دائمًا، لقد فقدَ الأدب التركي (عدالت آغا أوغلو)، ولكنني على يقين من أن أعمالها لن تُنسى.
وبموت الكاتبة (عدالت آغا أوغلو) فُقد الصوت النسوي التركي الأبرز، الذي بقي يُنادي بحرية المرأة لأكثر من سبعين عامًا في مجالات الإبداع المتنوعة، وفي منظمات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، ساعية أن تكون للمرأة كيانها الخاص التي تستحقه في المجتمعات المتطورة، بعيدًا عن السياسات الخارجية المقيتة.

مصادر الدراسة:
سمية الكومي: عدالت آغا أوغلو .. الأدب التركي يفقد زهرة خياله، في مجلة البحرين، السنة 13، العدد 158، (الدوحة: إصدار وزارة الثقافة والرياضة، 2020).  
صفوان الشلبي: مقدمة مسرحيات بينغو، الشرانق، موت بطل، الخروج، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة من المسرح العالمي رقم 389، 2017).