الموجات الاحتجاجيَّة في العراق.. أملٌ مذبوحٌ على صخرة البِنْية المُغلقة

منصة 2023/09/18
...

  علي فائز  


اهتم الكثير من الباحثين والمنشغلين في العلوم الإنسانيَّة في الحركات الاحتجاجيَّة، لا سيما بعد احتجاجات الربيع العربي 2011، إذ إن بعض البلدان شهدت تغيراً في شكل نظام الحكم من ديكتاتوري استبدادي إلى نظام ديمقراطي يؤمن بالتعددية وحقوق الإنسان وصار يحسب حسابا للجماهير.

ويعد العراق واحدًا من البلدان التي شهدت احتجاجاتٍ واسعة، إذ لم يحدث التغيير السياسي فيه من داخل النظام نفسه، ولا من خلال المساومة بين السلطة والمعارضة العراقيَّة في الخارج، بل كان التغيير
بفعل عامل خارجي وإرادة خارجية مباشرة، وهذا التغيير الخارجي صحب معهُ
إشكالاته التي فككت ودمرت الدولة ومؤسساتها وليس السلطة فحسب، وأصبحت الانقسامات والتمترس خلف الهويات الفرعية هي السمة الأساس التي تمُيز نظامه السياسي.
   وهكذا ولد النظام السياسي هجيناً غير قائم على أسس وركائز صلبة تجعله يتجاوز المشكلات بل على العكس من ذلك أصبح ولّادًا للمشكلات والأزمات التي تلقي بظلالها على المجتمع وتحدث ردّات فعلٍ قوية على الساحة السياسية والاجتماعية، تبلورت على شكل احتجاجات وتظاهرات واعتصامات مفتوحة تركت أثرها البسيط على النظام السياسي مطالبة بتصحيح مسار العملية السياسية، وإلغاء المحاصصة، وتعديل الدستور، واحترام حرية المواطن وصون كرامته، وتوفير العيش الكريم.
   لكن هذه الاحتجاجات لم تلقَ من النظام السياسي غير التجاهل واحيانًا الالتفاف على المطالب ومواجهتها بالقمع والتنكيل وتصدير ثورة مضادة، الأمر الذي يكشف هشاشة بنية النظام السياسي وانعدام فاعليته واستجابته للمتغيرات، مما انعكس على شرعيته، التي وقعت في مختبر الحركة الاحتجاجية فضلًا عن ظاهرة مقاطعة العملية الانتخابية التي وصلت إلى نسب كبيرة تكشف أن شرعية هذا النظام باتت على المحك.
   افقدت هذه الاحتجاجات التي برزت بقوة في عام 2011، وصولًا إلى الحركة الاحتجاجية الكبرى في تشرين 2019، الكثير من مميزات هذا النظام والقوى السياسية، إذ فرضت عليه تحديات جمّة تتعلق ببقائه والحفاظ على شرعيته بعد أن أصبحت الانتخابات وفتح الشبكات الزبائنية والاعتماد على العامل الخارجي هي ركائز القوة التي يستند اليها، دون تحقيق أي منجز يمتص غضب الناس ويستجيب لمطالب الحركة الاحتجاجية، فضلًا عن أنَّ الأحزاب التقليدية وحركات الإسلام السياسي والتي يعتمد خطابها على المظلومية التاريخية ومحاولة تأجيج مسألة الخطر الخارجي، وصناعة العدو المتخيل، وتحشيد الناس عن طريق الطقوس وتسويق الخطاب الطائفي واحياء الهويات الفرعية، فأنها  لم تعد متقبلة من الجماهير والتي ادركت أن ماسيها وخراب بلادها بسبب هذه الأحزاب التي تحشد لنفسها عن طريق
هذا الخطاب، فانتقلت بحسب علماء
الاجتماع من سياسة الهوية إلى سياسة القضايا، لا سيما بعد أن بلغت مستويات التعبئة على أساس الهويات المسيسة المذهبية الذروة تمامًا.
   ويدل هذا على طور الانتظام والنضج التي شهدتها الحركة الاحتجاجية والتي أصبحت تركز على البنية الكلية للمشكلة أو المشكلات الأخرى موضوع الاحتجاج، إذ أن أهم عامل لهذه النقلة هو بروز الجيل الجديد الذي تمثل في الشباب دون سن الثلاثين والذين هم عماد الحركة الاحتجاجية، فأن هذا الجيل يتميز بكونه على اتصال بالثقافة العالمية الليبرالية الحديثة، كذلك يمتلك هذا الجيل براعة في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وله قدرة على التحشيد والتعبئة من خلالها كما أن  أهم ما يميزهم انهم لم يعاصروا أي أيديولوجيا فاغلبهم رأى الحياة مع موتها فلم ينحدروا مع الاتجاهات اليسارية القاسمية والعروبية وإسلامية، فكل ما عاصره هذا الجيل بحسب الدكتور فارس كمال نظمي»هو حقبة الاسلمة السياسية ومعايشتهم التفصيلية للفساد السياسي وتلاشي الهوية الوطنية وتعاظم معدلات الفقر والقهر الاجتماعي وزج الدين في السياسة وتعدد مراكز السلطة إلى ما دون الدولة».
   حاولت الحركة الاحتجاجية في العراق ترك أثر على بنية النظام السياسي في العراق وتخليصه من حالة المحاصصة والدعوة إلى تعديل الدستور، وحصر السلاح بيد الدولة وتحقيق العدالة والمساواة وإدارة التنوع وفق مبدأ المواطنة، لكنها انصدمت بعدة عقبات وتحديات أهمها البنية المغلقة للنظام السياسي والتي لا تستجيب لأي تغيير، فضلًا عن غياب الطبقة الوسطى المستنيرة التي تحمل مشعل التغيير وتكون وسيطًا بين المحتجين والنظام السياسي، بالإضافة إلى ضعف تنظيمات المجتمع المدني والتي اصحبت رهينة بيد صناع القرار السياسي والقوى الحزبية، ولا ننسى بالتأكيد الأخطاء التي وقعت بها الحركة الاحتجاجية والتي تمثلت برفض وجود قيادة للحراك وابتعادها عن التنظيم في اطار سياسي، وهكذا «صارت أزمتنا الدائمة تتجلى «في أن القديم
آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة التريث هذه، يبرز عدد كبير من الأعراض المرضية.» كما يقول غرامشي في رسائل سجنه.