د. يحيى حسين زامل
بعد كتابة مقالتي السابقة «المجتمع المغلق والمجتمع المفتوح»، وردتني عدة تعليقات حوله متسائلةً ومستفسرة عن جوانب أخرى من هذين المجتمعين، وهل يمكن أن ينفتح المجتمع المغلق أو ينغلق المجتمع المفتوح، أو من قبيل أن العائلة والتربية (التنشئة الاجتماعيَّة) هي أساس التفكير المغلق، إذ ينشأ الطفل منذ صغره على أفكار وعادات وتقاليد، من خلال طرائقها وأساليبها التقليديَّة على الرغم من دخول العائلة إلى أعقد الظروف التكنولوجيَّة وانفتاحها على مختلف المجتمعات الشرقيَّة والغربيَّة.
مما شجعني على استكمال ما بدأته في مقالٍ ثانٍ أتوسّع فيه حول هذه المصطلحات القديمة الجديدة، التي كتب عنها فلاسفةٌ سابقون مثل «هنري برجسون» في كتابه «منبعا الدين والأخلاق» الذي تناولناه سابقًا، و»كارل بوبر»، الذي سنتناوله في هذا المقالة.
ومن وجهة نظر الفيلسوف «كارل بوبر» في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، الذي تناول تلك المجتمعات بين مدٍ وجزرٍ من آراء الفلاسفة من «سيسيولوجيا افلاطون» وإلى «مساوتية برقليس» وإلى «تعدديَّة جروت»، من خلال تطبيق طرائق العلم النقديَّة والعقلانيَّة على مشكلات المجتمع المفتوح، فهو يحلل مبادئ البناء الاجتماعي الديموقراطي، ومبادئ ما اصطلح على تسميته «الهندسة الاجتماعيَّة المتدرجة، في مقابل «الهندسة الاجتماعيَّة اليوتوبيَّة»، بطريقةٍ عقلانيَّة، منتقدًا المنهج التاريخاني، لأن المنحى التاريخاني حسب رأيه يعطي نتائج ضعيفة.
ويُطلق «بوبر» على المجتمع القبلي أو الجمعي أو السحري، اسم المجتمع المغلق، وعلى المجتمع الذي يجابه فيه الأفراد بقراراتٍ شخصية، المجتمع المفتوح. ويمكن مقارنة المجتمع المغلق بحق بمجتمعٍ عضوي. ويمكن أن ينطبق عليه إلى حدٍ كبيرٍ ما بالنظرية العضويَّة أو البيولوجيَّة للدولة. فالمجتمع المغلق يشبه القطيع أو القبيلة في أنه وحدة شبه عضويَّة يرتبط أعضاؤها بعضهم ببعض بروابط شبه - بيولوجيَّة والنسب، والحياة المشتركة، والمشاركة في المجهودات المشتركة، والأخطار المشتركة، والأفراح المشتركة، والأتراح المشتركة. وهذا التوتر والقلق، إنما هو نتيجة الخوف من انهيار المجتمع المغلق.
وهذا التوتر مرتبطٌ ارتباطٌ وثيقٌ، بمشكلة التوتر القائم بين الطبقات الناتج أول الأمر عن انهيار المجتمع، والمجتمع المغلق لا يعرف هذه المشكلة، فأعضاؤه على الأقل يعدّون العبوديَّة ونظام الطوائف وحكم الطبقة أشياءً طبيعيَّة، بمعنى أنها لا تُناقش... ولكن مع انهيار المجتمع المغلق يختفي هذا التأكيد، ومعه كل شعور بالأمن، فالمجتمع القبلي إنما هو موطن الأمان لعضو القبيلة.
ويشرح «بوبر» أن من أكثر الأسباب قوةً لانهيار المجتمع المغلق هو تطور الاتصالات البحريَّة والتجارة، فالاتصال مع مجتمعات آخر يؤدي إلى تقويض الاحساس بالحاجة، ويضرب على ذلك مثلًا حضارة أثينا الرائدة في الديمقراطيَّة (المفتوحة)، واسبارطة القبليَّة (المغلقة). وكيف أن المجتمع المغلق القبلي احتل المجتمع الأثيني الديموقراطي المفتوح من خلال «حرب طروادة»، فتحول المجتمع الأثيني المفتوح إلى مغلق نتيجة خسارته بالحرب، ولكن بعد ثلاثة عقود تقريبًا استردت أثينا قوتها واستعادت سيطرتها على أراضيها مرة اخرى.
ومما لا شك فيه أن المجتمعات المفتوحة اليوم تمتاز بحرية وديمقراطية في الحياة والحكم، وهي منتشرة في العديد من البلدان الغربيَّة، والتي انهارت فيها المجتمعات المغلقة (القبليَّة، التقليديَّة، السحريَّة) ونتيجة لتفكك هذه المجتمعات السابقة نتج عنه انبثاق مجتمعات جديدةٍ تستوعب التعدد الإثني والقومي والعرقي والديني والطائفي.
ومع بدء احتجاجات «الربيع العربي» في البلدان العربية شهدت الساحة السياسيَّة سقوط أنظمةٍ سياسيَّة مخضرمة، قبعت منذ عقودٍ في حكمٍ سياسيٍّ مطلقٍ لا يؤمن بالتعدد، ولا يعطي الحرية في المعارضة والتبادل السلمي للسلطة، ما نتج عن ذلك الاستحواذ على ثروات البلاد والعباد لجماعة قبليَّة أو تقليديَّة أعطت لنفسها حكم المجتمعات بدون منازع، ونشأت قبال هذا طبقاتٌ مسحوقةٌ فقيرةٌ ترفض هذا الانغلاق في
السلطة.
ونتج عن ذلك سقوط وتفكك الكثير من الحكومات، التي أخلفت الاحتلال الاستعماري للبلدان العربيَّة، لأن هذا الاستخلاف لم يعطها الحق في البقاء المؤبد للحكم في البلاد، وتحرير البلاد من الاستعمار أخلف استعمارًا جديدًا من قبل بني جلدة المجتمع نفسه، مما دعا الكثير إلى الاحتجاج والثورة والإطاحة بتلك النظم المغلقة.
واليوم نشهد العديد من تلك المجتمعات التي تخلصت من حكوماتٍ استبداديَّة ومغلقة تسعى بكل قوة إلى التحرر بشكلٍ مفرط، ولكل قوة رد فعلٍ تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، بحيث أصبحنا مجتمعاتٍ يصعب السيطرة عليها، مجتمعاتٌ مستنفرةٌ ومستفزةٌ ومتوثّبة تتطلع بشراهةٍ إلى العالم المفتوح، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وثورة والمعلومات وحكم الاتصال بين الثقافات، ويمكن ملاحظة ذلك في تفكك العديد من المجتمعات كإثنياتٍ وجماعاتٍ وطوائفَ في البلد الواحد، تشجعها بلدانٌ غربيَّةٌ إلى الاستقلال واسترداد الحقوق المسلوبة، من خلال بعض المنظمات والمؤسسات العاملة هنا وهناك. ولعلَّ الأمر وصل إلى ذات الجماعة نفسها التي هي تفككت وانقسمت على نفسها، لتكون بذلك وحداتٍ صغيرة، ولتخرج من مجتمعٍ مغلقٍ بأحكام الطائفة والقبيلة إلى الحرية الفردية، وهذا الامر في سجالٍ وتواصلٍ مستمرٍ، وفي سيولةٍ يصعب السيطرة عليها، لأن أكثر خيوطها ليست بأيدينا، ولذلك فنحن ماضون إلى المجتمع المفتوح لا محالة، وأن هي إلا مسألة وقت.