مسرحية (SPEED) لعب خارجي ومضمون عميق
رضا المحمداوي
لم أجد أيّة دلالة دراميَة أو ضروة فنيَة تستدعي إطلاق عنوان (SPEED)
على المسرحيَّة التي قدمتها المخرجة الشابة ليلى فارس في منتدى المسرح مؤخراً، فالعنوان بلغته الأنكليزية يحيلنا مباشرة إلى الفيلم السينمائي الشهير الذي يحمل العنوان ذاته، حيث الحركة والإثارة وبوجوه ممثليه المعروفين (كيانو ريفز) و(ساندرا بولوك)، في حين أن المسرحيَّة تخوض في موضوعة فكريَّة وبإطار اجتماعي- عائلي في غاية الأهميَّة والحساسيَّة. وفي البدء لا بُد لي من التوقف عند نقطة رئيسة مهمّة تخصُّ مرجعية العرض المسرحي، الذي قدمته المخرجة واختارت توصيف (تأليف) إلى جانب (الإخراج) في تقديمها لنفسها في دليل العرض.
إلاّ أنَّ الأمانة التأريخيَّة والمسرحيَّة تقتضي الإعلان عن أو الإشارة إلى أنَّ العرض المسرحي الذي قدَّمتْهُ المخرجة قد تم (إعدادهُ) عن مسرحية (ليلة القَتَلَة) للمؤلف الكوبي (خوزيه ترييانا) ( 1931 - 2018) وهي مسرحيَّة ذاع صيتها وباتتْ معروفةً في الأوساط المسرحيَّة العالميَّة وسبق لها أنْ عُرضَتْ في أكثر من دولةٍ عربيَّةٍ وأجنبيَّةٍ، وحصلتْ على أكثر من جائزة أدبيَّة وفنيَّة منذ أنْ انتهى المؤلف من كتابتها عام 1965، وها هي المسرحيَّة الكوبيَّة بشهرتها العالميَّة وبعد ما يقرب من ستين عاماً على تأليفها تجد طريقها للعرض في منتدى المسرح.
لكن المخرجة الشابة تجاهلتْ هذا الخلفيَّة التأريخيَّة وانتحلتْ صفة أو صيغة (التأليف) لعرضها المسرحي بطابعهِ الشبابي وهويتهِ التجريبية، دون الإشارة إلى الجذور أو الأصول للنص المسرحي العالمي، ولا أحسبُ أنَّ صيغة (الإعداد) المسرحي ستنتقص من قيمة أو أهمية منجزها الفني الشبابي، ورُبَّما جاء العنوان) الهجين كمحاولة للتغطية
أو للتعمية على عنوان (ليلة القتلة) الشهير.(SPEED)
ليلة القتلة
واعتماداً على قراءتي المتواضعة للنص الأصلي للمسرحية بترجمة فتحي العشري والصادرة عن الهيئة المصريَّة للكتاب عام 1980 فقد استمدت المسرحيَّة أهميتها بكونها مسرحية (فكرة) رئيسة وإنْ كانت لا تقدَّم مضمونها بشكلٍ مباشرٍ، إذ تتخفى وراء حكاية عائلية، لكنها تخوض في فكرة صراع الأجيال المعروفة بين الآباء والأبناء، وتتبنّى بل وتحرض على التمرد والتحرر من سلطة الأب الذكوريَّة الغاشمة ومركزيتها الاجتماعيَّة، التي تستلب شخصية الأبناء وتصادر حقهم في التعبير عن آرائهم وتوجهاتهم.
إنّهُ عملٌ مسرحيٌّ يستفز دواخل النفس الإنسانيَّة ويدفع بها للمواجهة وتحدي (التابوات) من أجل كسر القيود وفك الأغلال في ظل نزعة التحرر، ومحاولة التخلص من الاستلاب، وذلك بواسطة حيلة سايكولوجيَّة تتقنّع ب،(لعبة مسرحية) تقوم أساساً على إحلال شخصية مكان شخصيَّةٍ أخرى، وتتقمص دورها وصفتها العائلية، ومن ثم القيام بعملية تصفية حساب عائلي تنتهي بعملية قتل افتراضيَّة للأب والأم والتخلص من سطوتهما نتيجةً لما قاما به من انحراف وتشويه واضطهاد بحق أبنائهم.
وقبل المضي في الكشف عن مكنونات المسرحيَّة ولعبتها الدراميَّة الداخليَّة المغلقة، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ مثل هذه الأفكار والمضامين، التي تدعو الى الحرية ورفض الاستسلام لا يمكن عزلها عن الظروف التأريخية، التي كُتِبَتْ بها المسرحيَّة حيث لمْ تَمُّرْ سوى بضع سنوات على إنتصار الثورة الكوبيَّة عام 1959 بقيادة ( كاسترو) ضد نظام (باتيستا) الديكتاتوري، وقد حَضَرَت الأفكار الثورية لـ(كاسترو) ولصديقهِ أيقونة الثورة والتحرر (جيفارا) في الثقافة الكوبية الجديدة آنذاك، والتي عَمَلَ النظام الكوبي الفتي الجديد على إشاعتها ونشر أفكارها الجديدة في تلك الحقبة التأريخيَّة.
التمثيل داخل التمثيل
المسرحيَّة في بنائها العام تمزج الواقع بالخيال من خلال تقنية أو أسلوب (التمثيل داخل التمثيل)، من أجل إيصال فكرتها الرئيسة، لتصبح بمثابة (اللعبة الدراميَّة)، داخل المتن المسرحي التي تلعبها الشخصيَّات المتعددة كوسيلة تعبيرٍ عن الرفض والتمرد والتنفيس عن مكبوتات الذوات المقموعة والمستلبة، والإفصاح عمَّا يعتمل داخل تلك النفوس المحطمة.
وقد أدركت المخرجة هذه اللعبة المسرحيَّة وأرادتْ بواسطتها الدخول أو النفاذ إلى عملية (التأليف) التي ثبتتها، وذلك من خلال إدخال عملية تعاطي المخدرات للشخصيات، باعتبارها السبب الرئيس لما تقوم به من أفعالٍ شاذّةٍ ومنحطّةٍ ومنحرفة، لتصبح بعد ذلك أداةً للتخلص مما تعانيه من واقع مرير، ومن ثم اتخاذها وسيلةً من وسائل الهروب من الواقع والبحث عن طريق الخلاص، لكن إضافة أو إدخال عنصر المخدرات لوحده كفاعلٍ دراميٍّ جديدٍ داخل اللعبة المسرحيَّة ليس كافياً لإدّعاء عنصر (التأليف) المسرحي .
ومنذ اللوحة الأولى أو المشهد الاستهلالي للمسرحيَّة بشخصياته الأربع (ولدين وبنتين) تضعنا المخرجة في اللعبة المسرحيَّة مباشرةً، حيث تبادل المواقع والأمكنة، والتي ستكون الباب للدخول إلى تبادل الأدوار، حيث سيؤدي الجميع أدوار الأب والأُم والأخ والأخت، وفي هذا اللعبة (المُمَسرحة) داخل النص وتبادل الأدوار تدخل الشخصيات في لعبة (التغريب) بواسطة (التمثيل داخل التمثيل)، حيث تؤدي الشخصية دورها ودور الشخصية المناقضة لها.
وقد أجادت المخرجة في اختيار المكانيَّة المسرحيَّة المتمثّلة بالغرفة الصغيرة الضيقة والمغلقة على نفسها، حيث لا أبواب ولا شبابيك ولا حتى نافذة، وقد أصبحت الغرفة من خلال هذا الديكور لـ(محمد النقاش) وبالألوان الرمادية الباهتة للملابس أقرب ما تكون إلى السجن المنزلي، وأعطت الشعور بالضيق والانحباس المكاني، وفي هذا الاستخدام الفني للمكان المسرحي نعود إلى (العلبة المسرحيَّة) القديمة حيث لمْ يبقَ أمام تلك الشخوص المسجونة في غرفتها سوى الجدار الرابع، الذي تمَّ رفعه أمام الجمهور، كي يرى بأمّ عينيه ويكون شاهداً على تلك الجريمة البشعة (المفترضة)، والتي تم تجسيدها بثلاث حالات مختلفة: الطعن بالسكين، ودسّ السم في الشراب، واستخدام الحقنة القاتلة، لكنها بقيتْ عملية قتل للأب والأم بطريقةٍ رمزيَّةٍ، لأنها أصلاً جريمة قتل مُتخيلة تدور في أذهان الأبناء، وليستْ مُجسَّدةً على مسرح الحياة، وقد قام الشباب الأربعة بتلك الجريمة للتعبير عن رفضهم الاستسلام للأمر الواقع، ومن أجل إعادة ترتيب أمور حياتهم وبيتهم . - ولكن هل سنبقى ندور في حدود لعبة أولئك الشباب والتي هي عبارة عن قناع للحقيقة، التي يريد النص ايصالها لنا ؟
- وهل سنكتفي بما يجري ويدور من أحداث مفترضة وأفعال مُتخيلة داخل تلك الغرفة المغلقة، أَمْ أنَّ رسالة الفن لا بُدَّ لها من الانزياح من هذا الواقع الافتراضي إلى الواقع الحقيقي بطبيعتهِ الاجتماعيَّة ومحركاتهِ ودوافعهِ وأسبابهِ؟ وتقتضي الضرورة، هنا، الإشارة إلى أنَّ النص المسرحي، قد أصبح ذا طبيعة مُرَكّبَة ومتداخلة في رسم الشخصيات، وليس من السهل تجسيده على أرضية منتدى المسرح، كما أنَّ البنية الدرامية والإسلوب الفني، كان يتناقض تماماً مع فكرة (التقمص الأدائي) بالنسبة للممثل، فالخروج من شخصية والدخول إلى شخصية أخرى مناقضة لها وتعمل على الضد منها لا يمنح الوقت الكافي والمساحة الفنية، للممثل بأن يمسك بالشخصية المنوطة به ويجسَّدها أدائياً على نحو واضح ومؤثر ومقنع، إلاّ أن أداء فريق الشباب الحيوي ( تبارك حامد وكاثرين هاشم وسجاد جعفر وحسين محمد) بقيادة المخرجة الشابة إيمان فارس يستحق الإعجاب والتصفيق والإشادة بمثل هذه الطاقات الفنيَّة الفتية، وأنّهُ لأمر مفرح حقاً أنْ يكسب المسرح العراقي مثل هذه القدرات الفنيَّة والتمثيليَّة
الواعدة.