البناء التعالقي لـ(المواطنة 247)
بشير حاجم
يُقصد بتعالق شيء ما، محدّد - معيّن، أن يُمسك بشيء آخر، مثْله، وأن يُمسك به هذا الشيء الآخر، في المقابل، ممّا يعني، حتماً، أنّهما متّسقان تناسباً أو تناسقاً لأوّلهما بثانيهما. إذاً: كِلاهما جزءٌ من كُلٍّ، هنا، حيث هذا الكُلّ، الآن، ذو عدّة أجزاء، ثلاثة فأكثر، يجب عليها، حتى لو بأدنى ضرورة؟!، أن تكون ذات بناء تعالقيٍّ دالٍّ على تماسكها المتمالِك الثابت. هذا البناء التعالقي، الذي يغدو بهذه الكينونة كُلّاً لكُلٍّ، يُفترض أنّ له كياناً جليّاً في أيِّ نص روائي ذي عنوان فإهداء (كذلك: تصدير أو تمهيد, وأمثالهما) ثمّ متن، تماماً، مثلما هو في ((المواطنة 247))* لـ”بشرى الهلالي”.
فالعنوان: كلمات على رأس النص تشير لمحتواه الكلي، بحسب /لوي هويك/، حيث “المواطنة 247” في سجلّ الأمن لدى منظومة الدولة، أيْ نظامها، موجودة داخل المتن عبْر “العميل (س)” مُذِ (انتقل إلى ملاحظاته حول المواطنة (247)، “...” التي يعرفها حقّ المعرفة ص58) بعدما (أغلقَ القدر ملف آمنة قبل عشرين عاماً ليعودَ ويفتحه من جديد بعد أن صارتْ آمنة المواطنة (247). ص68) والآن (ها هي يده التي ساهمتْ في تأسيس الشبكة توصلُه إلى آمنة، المواطنة (247)، ص75).
هنا “العميل (س)”، الذي تعالقَ به المتن مع العنوان، سيُدرك (أن تحملَ رأسك فوق كتفيك هذا لا يعني أبداً أنّك تمتلكُه. ص75)، حدّ التأكّد، وهذا الإدراك هو التصدير، لكنْ هكذا: (أن تحملَ رأسك فوق كتفيك.. هذا لا يعني بأنّك تمتلكُه ص5)، حيث أنه: ذو وظيفة تلخيصية، بحسب “فيليب لان”، لذلك, بتعالق: عنوان ـ تصدير ـ متن، تراتبيّاً، يتوإلى سردٌ عن ذوي رؤوس على أكتاف: (تَملمَلت الأم في جلستها.. تلمّستْ رقبتها، موضع الرأس، ص6), (اعترضت الفتاة الصغرى “...”: ـ “...” أنتظرُ خروج العصفور لأعرف ان الساعة حانت لاسترداد رؤوسنا ص7), (استجمع الأب كلّ قواه الجسدية، ضغطَ على رقبته “...”: ـ “...”، رأسي خاضع لل..لل..برمجة. ص9), (ها هو طفلها ذو الأحد عشر عاماً، يعود “...”، وفمه يفرقعُ بمضغات التفاحة، “...”، كيف يمكنه أن يشعرَ بالجوع إن كان بلا رأس؟ ص16), (لا يعنيني إن صادروا رؤوسنا، فما حاجتي إلى رأس لا أعرف كيفية استخدامه، فأنا لم أفلح في دراستي، بالكاد أكملتُ الصف الأول المتوسط، ص18).
بهؤلاء “الخمسة”، هنا، يتعالق الاستهلال مع: العنوان ـ التصدير، الآن، حيث وظيفته المركزية: ضمان القراءة الجيدة للنص، بحسب “جيرار جينيت”، إذ يجمعهم ضمن أولى فقرات المتن: (تسمّرتْ أجسادهم الخمسة باتجاه الساعة العتيقة المثبتة على الحائط.. كتلٌ من اللحم والعظم، تكدّستْ أربعة منها على أريكة، الأب والأم والصبي ذو الأحد عشر عاماً والفتاة ذات السبعة أعوام، بينما تكوّرتْ الصبية ذات الأربعة عشر عاماً في كرسي منفصل. ص6).
إنّهم أفراد خمسة لعائلة واحدة، إذاً، خلال تسعينيات القرن الماضي، ثم بُعيد 9 / 4 / 2003، أبرزُهم “الأم”، لا “الأب”، لأنها ماضياً “آمنة” حبيبة “سلام”، ذي القبلة المشؤومة: (لم يعد يفصل بيننا سوى هسهسة أنفاسنا التي تجري في جسدين منفصلين اتّحدا بقبلة، “...”، فتحتُ عينيّ لأرى قامة بدتْ لي شاهقة “...” ـ “...”، هيا معي إلى مركز الشرطة ص36)، وهي حاضراً “المواطنة (247)” قبالة “العميل (س)”، المراقب لبرمجة الرؤوس: (صار محور تركيزه هو حمايتها من عيون المتلصّصين. ص75)، أيْ تعالَق بهما الزمنان المتنائيان: الماضي ـ الحاضر.
هذا التعالق الزمني، بوصفه جزءاً من البناء التعالقي، له مثيل عبْر “آمنة جابر” = “المواطنة 247” ذاتها: إذ أن ماضي “الأم” ـ بسنّ الـ17 ـ مع “ابن الجيران” مُذ (قذف بورقة مطوية، عثرتْ عليها “...” حين كانتْ تنشر الملابس، ص52)، ثم راح (يرسل لها الأشعار، يدسُّ لها الرسائل في كتاب مدرسيّ، يغني لها عبر الهاتف، ص54)، سوف يكرّره حاضر ابنتها ـ بسنّ الـ13 ـ مع “ابن الجيران” أيضاً: (رمى لي وردة حين كنتُ أراجعُ دروسي قبل سنة. ص20)، حتى: (فاجأتني أمي “...”، اثناء نزولي السلّم متسلّلة بعد رحلة عاطفية نظّمتُها للاحتفال بعيد ميلادي مع حبيبي ص19)، لذلك تواجه الابنة أُمّها: (أحببته من خلالكِ “...”.. بذاكرتك التي كانتْ تعرفُ الحب، على سطح الدار ص20)، مضيفةً: (حين كنتِ في مثل سنّي ص.ن)، وحين تطلب “الأم” من “الأب” إيقافها عند حدّها، بعدما (تجد ابنتها في أحضان شاب وفي سطح دارهم، ص54)، يواجهها مستهجناً: (ألم تفعلي شيئاً مماثلاًة في سنّها؟ ص.ن).
كِلا التعالقين الزمنيين هذين تمثيلٌ غيْر حصريٍّ عن تداخلات جليّة للماضي بالحاضر، متشارِكة لا متقاسِمة، يُمتّن ترابطها مع تماسكها ساردٌ خارجيّ، إطاريّ، بأنْ يستدعي لأيِّ واحد منها سارداً داخليّاً، صوريّاً، أنّى ارتآه ضرورةً:
ففي المقطع {3}، بعد سرده المقطعين السابقين عن الأفراد الخمسة للعائلة الواحدة، يستدعي “الأم” منذ استهلاله: (أما أنا، فلا أشبه غيري من النساء. ص14)، حتى: (تمنّيت أحياناً لو أني ولدتُ برأس بلا زوايا ولا أفكار، “...”، “...”. ص16)، ثم يتولّى السرد عنها عقِب فصلة ثلاثية (***): (لم يتبقّ سوى ساعتين على انتهاء القطع ليعود رأسها، ص.ن).
وفي المقطع {4}، بعده، يستدعي “الصبية ذات الأربعة عشر عاماً” منذ استهلاله أيضاً: (أما أنا فلا تعنيني البرمجة، ص18)، حيث “أمّا” لافتتاح الكلام، أيْ في “أما أنا فلا” دلالة على تشبّهها بأُمّها، التي قالت قبْلها “أما أنا، فلا”، لهذا يستدعي “الأم” للسرد بعدها عقِب فصلة ثلاثية (***) كذلك: (مدهش أن يكبرَ الأبناء دون أن نلاحظ ذلك، ربّما نلاحظ! ص22).
أيضاً يستدعيها في المقطع {5} منذ استهلاله: (“...” اسمي كان.. وما يزال.. حسبما أتذكر.. آمنة، ص24)، مؤكِّدا أهمّيتها، ثم يستعيد السرد منها، عقِب فصلة ثلاثية (***) أخرى، إنّما عنها: (ما زالت تتكوّم على السلّمة الأولى حيث تركتْها ابنتها الكبرى ص25).
أخيراً يتذكّر “الأب” في المقطع {6}، بعد خمسة مقاطع كاملة!، فيستدعيه منذ استهلاله: (فعلوا خيراً حين صادروا رؤوسنا، وحجبوا الذاكرة.. فرأسي يكاد ينفجر حين يعود إلى مكانه. ص30)، تماماً، لكنه يستردّ السرد منه سريعاً، حتى بدون فصلة ثلاثية (***)، حين تنتابه قرقرة (وعندما.. عندما.. عن..د..ما.. ص31)، أيْ حُجبت عنه ذاكرته، إذ (قرقرَ وهو يرفع يده إلى مكان الرأس ليتأكد من وجوده.. ص.ن).
فهو يركّز على “الأم”، لا “الأب”، لذا يستدعيها مرة رابعة منذ استهلال المقطع {7} (أول قبلة، هل سأنالها حقّاً؟ ص34) مفصّلةً بتسع صفحات حدث القُبلة المشؤومة لأنه محوريٌّ.
ثم يستدعي “الفتاة ذات السبعة أعوام” منذ استهلال المقطع {8}: (بسببه كرهتُ البرتقال، ص47)، تقصد أباها صاحِب تسميتها بـ”البرتقالة”، لكنْ لصفحة واحدة وبضعة أسطر، فقط، لأنها مجرّد بنت صغرى لا أهمّية ملحوظة لها.
بعكسها “الصبية ذات الأربعة عشر عاماً”، أيِ البنت الكبرى، فلَها الأهمية الملحوظة المتأتّية من تشبّهها بـ”الأم”، لا “المواطنة 247” بل “آمنة جابر” هنا، لهذا يستدعيها مرة ثانية منذ استهلال المقطع {9}: (ادّخرتُ مصروفي لمدة شهر كي أقتنيه، ص51)، متحدّثة عن طلاء أظافر، وعندما يسترد السرد منها، عقِب فاصلة ثلاثية (***) كالمعتاد، يُبقيه عنها بوساطة أُمّها: (كان عليها أن تخبره بالأمر، “...”. يجب أن يعلم فهذا الأمر ليس بالهين، “...”، يعني ان الابنة في خطر، ص54).
بعدها يعود إلى “الأب” في المقطع {11}، بعدما سرد سابقه {10} عن (“العميل (س)” > “سلام”)، منذ استهلاله: (“لـ”طالما ظننتُ انني أستخدمُ رأسي بالشكل الصحيح، ص59)، لذا أصبح مدرّس تاريخ، إلّا أنّ هذه العودة بصفحة واحدة فقط، لا أكثر، إذ يستعيد السرد منه، عقِب فاصلة ثلاثية (***) أيضاً، بأنْ يتناول لأربع صفحات وثلاثة أسطر علاقته مع زوجته التي (لم تتقبّل فحولته يوماً. ص60).
في المقطع {16}، بعدما سرد مقطعين عن (“سلام” > “العميل (س)”) ومثلهما عن (“المواطنة (247)” > “آمنة”)، يستدعي “الصبي ذا الأحد عشر عاما” منذ استهلاله: (“...”. هذا ما كانت ماما تردّده دائماً في سنواتي الأولى، ص84)، أيْ (ستُصبح مهندساً حين تكبر. ص.ن)، ويستردّ السرد منه، عقِب فاصلة ثلاثية (***) طبعاً، لكنْ عنه (في ذلك النهار.. يتذكر الصبي ص88) ثم عن أُمه (في ذلك اليوم، عادت آمنة ص90).
بعده يستأثر بسرد جميع المقاطع الأخيرة، من {17} إلى {30}، ممّا يعني أنّ استدعاءه ساردين داخليّين، صوريّين، قد اقتصر على: الأب والأم والصبي ذي الأحد عشر عاما والفتاة ذات السبعة أعوام والصبية ذات الأربعة عشر عاماً، أيْ عائلة “آمنة جابر”، دون سواهم، خمستهم، بمن في (سواهم) ثمّة (“سلام” = “العميل (س)”) خصوصاً، حدّ الحصر!، بالرغم من محوريّته، التي تُماثل محورية حبيبته الوحيدة، إنّما يجعله سارداً ضمنيّاً، تلميحيّاً، بأنْ يبعث <رسالة أخيرة> إلى (“آمنة” = “المواطنة (247)”)، تبدأ هكذا: (حين تصلك رسالتي هذه، أكون قد ابتعدتُ تماماً، ص150)، فتعدمها: (طوت الرسالة دون اهتمام وألقتها في سلة المهملات القريبة من سريرها، تأففتْ، نهضت، لتلتقطها ثانية من السلة، مزّقتْها قطعاً صغيرة، دسّتها ثانية في قعر السلة، فما جدوى الاحتفاظ برسالة منه! ص151).
إنّ في إعدامها هذه “الرسالة”، والشيءُ يُذكَر بالشيءِ، ما يدلُّ على تخلّصها من آخر آثار الحكم السابق (كالعديد من أتباع السلطة وذوي المناصب والذين يعملون في أماكن حسّاسة حتى وإن لم يكن لديهم منصب سياسي أو عسكري “حيث” سلام” أحد هؤلاء، ص148)، بعدما سقط (منذ دخلت القوات الأجنبية العاصمة ومحافظات البلد الأخرى، ص.ن)، إذ كانت مناوئةً له: واقعيّةً بصفتها “آمنة جابر” (يوما بعد يوم، ازدادَ عدد التوابيت التي دخلتْ حيّنا يقابله خفوت لعلعة الزغاريد، ليرتفعَ صوت الصراخ والعويل فقط، ويصل أحيانا إلى حدّ السباب والشتم والدعاء على من كان السبب، فلم يعد الأهالي يفخرون بابنهم (الشهيد) قدر حرقتهم على فقدانه, حتى أمي، لم تعدْ تولولُ هي الأخرى عندما ترى مشهد التابوت المغلف بعلمٍ عراقي وهو يُقدّم لأهل الشاب كهدية ليلة الميلاد المفاجئة، مضافاً إليها شهادة الوفاة. ص25) – رمزيّةً بوصفها “المواطنة (247)” (ذاكرتي حية، لذا ما زلتُ حية، ويجب أن أفعلَ شيئاً، لنْ أستمرّ بقبول هذا.. أن أظل سجينة البرمجة، لن أسمح لهم بأن يأخذوا رأسي متى شاؤوا ليعبثوا به بأصابعهم القذرة، لتتجوّل فيه أعينهم اللئيمة كما يتفحص الجنود غنائم الحرب. ص44).
ولأنّ العنوان هو “المواطنة (247)”، لا “آمنة جابر”، هيمنت على المتن، حتى استغلاقه: (بما تبقى لها من ذاكرة، أدركتْ بأن رياح التغيير أطاحت برؤوسهم من جديد...! من الذي أعاد العمل بنظام..ال..ب...ر...م....ج....ة! ص152)، ما عُرفت اختصاراً ببرمجة الذاكرة، المأخوذة فكرتها من برمجة كهرباء (العراق) خلال تسعينيات القرن العشرين الماضي، إذ هي (أكبر منظومة للتجسس على رؤوس المواطنين، وصولاً إلى حجب الذاكرة، “...” ببرمجةٍ تسمح للفرد بأن يمارس فعالياته الحيوية والحياتية بما يكفي لبقائه ولأدائه عمله. ص75) بشرط أنّه (يعرف ان أي اختراق للرأس من قبل شخص آخر غير الجهات المختصة قد يتسبّب في خلل في البرمجة، الأمر الذي ينتج عنه القبض على الشخص وإيداعه في سجون التربية العقلية في حال اُكتشفَ الأمر، هذا ان لم تكلّف الشخص خسارة رأسه إلى الأبد. ص: 79 ـ 80) مع وجود (لجنة المراقبة لإحصاء الرؤوس وتسجيل أسماء أصحابها ومنح كل واحد منهم رقماً يظل محفوظاً في سجلات سرية لا يسمح لغير لجنة المراقبة بالاطلاع عليها. ص92)، هنالك عند (أبعد نقطة في العاصمة حيث يقبع مركز مراقبة الذاكرة, البعض يقول انّه ملحق بالقصر الرئاسي ولا يمكن الدخول إليه إلا بموافقة القائد أو من ينوب عنه من المقربين، والبعض يقول إنه يقبع في أعماق دجلة في غواصة لا يغادرها الخبراء الذين يعملون عليها إلا للضرورة القصوى، كموت أحدهم مثلاً. ص79)، وهذه كُلّها كناية عن القبضة المزدوجة للحكم السابق: الحديديّة الناريّة, الأمنيّة العسكريّة, السياسيّة الآيديولوجيّة، إلخ؟!، والتي تراخت كثيراً منذ نهايات تلكم التسعينيات حدّ السقوط قبيل الضربة الشاملة للاحتلال اللاحق: (اقترب بسرعة وانحنى واضعاً يده اليسرى على المكتب قائلاً بصوت متقطع من أثر اللهاث: - تمّ اختراق منظومة المراقبة، قمْ بإتلاف ما تستطيعه من ملفّات يا سلام، حتى لو اضطررتَ إلى تحطيم الحاسبة. اتّسعت حدقتاه وهو ينقل نظره بين المدير والشاشة كأنه يعجز عن الفهم، كرّر المدير العبارات بنفاد صبر: - نعم إنها مصيبة، الاختراق ليس من داخل البلد، إنها طائرات أميركية مسيّرة، ص130).
هكذا شُيّد، إذاً، البناء التعالقي لـ((المواطنة 247))، نصّاً روائيّاً، على أساسين متينين: أوّلهما “السارد” بأنواعه الثلاثة: الخارجي ـ الداخلي ـ الضمني _ “المسرود” بمكوّناته الأربعة: الحدث ـ الشخصية ـ الزمن ـ المكان، معاً، جامعيْن لـ(السرد): شعريّة تقنيّة “بويطيقيّة” + علاميّة دلاليّة “سيميائيّة”، متناسقتين متساوقتين، وهذا يُحسب لـ”بشرى الهلالي”.
* المواطنة 247، رواية، بشرى الهلالي، منشورات تأويل للنشر والترجمة ـ بغداد “العراق”، ط1، 2023.