د. نادية هناوي
يعد أدب الفنتازيا على اختلاف أشكاله واحدا من التمثيلات الروائية التي تموضع الشخصيات في صورة خيالية وأبعاد مستقبلية، ولعل جذور هذا التموضع تعود الى روائيي القرن التاسع عشر. وتحتل ماري شيللي موقعا روائيا مهما في القرن العشرين برواياتها الموظفة للمتخيل العلمي مثل (رواية الانسان الاخير) و(فرانكشتين) التي تتحدث عن اعادة خلق البشر من خلال فنتازيا صنعها البارون فرانكشتين. ومن الروائيات اللائي طورن استثمار المتخيل العلمي دوريس ليسنج لاسيما روايتها( البطاقة الذهبية) التي يجتمع فيها التاريخ بالسياسة والجنس بالحضارة. إما روايتها( مذكرات باق على قيد الحياة) فتروي قصة امراة تجد نفسها تعيش في انواع مختلفة من الازمنة هي تاريخ رؤية حول المستقبل.
وعربيا لا يستقطب المتخيل العلمي اهتمام الروائيين العرب، باستثناء بعض الاسماء المحدودة في كتابتها نذكر من تلك الاسماء نبيل فاروق ونهاد شريف وطالب عمران ومحمد العشري وادريس اللياني وأشرف فقيه، وإذ نجد اسمين نسويين عربيين فقط يكتبان رواية الخيال العلمي وهما طيبة الابراهيم وصفاء النجار، فان ذلك يعني أن الروائيات العربيات لا يملن الى هذا اللون من الكتابة السردية التي تصب في خدمة كتابة التاريخ النسوي.
ولعل السبب يعود الى صعوبة ادماج المادة الادبية وما تتطلبه من مساحات تخييلية بالمادة العلمية ومقتضياتها المنطقية والتوضيحية التي تحتاج تبحرا كبيرا في فرضيات العلم وقوانينه وحتمياته وبالشكل الذي يجعل ما هو افتراضي قابلا للتصديق والاقتناع.
وهذا ما يستدعي من الكاتبة ثقافة علمية كبيرة مع إيمان بإمكانات اللغة في تحقيق التعددية الثقافية والسبرانية بما يجعل الثقافات عابرة للقارات ناهيك عن تركيز الاهتمام على الثقافات الطرفية أو الهامشية, ويرى جيسي ماتز أن الرواية الحديثة لن تكون رواية مستقبلية إلا باللغة التي بها تتشكل ذاتها وتحل معضلاتها المطروحة. ولا تعرف اللغة السردية حدودا مرحلية تفصل الماضي عن الحاضر أو الحاضر عن المستقبل، فالحاضر قائم بالماضي والماضي متجسد في المستقبل مثلما أن المستقبل منظور إليه من خلال الماضي وهكذا تتداخل الأزمنة لتغدو هي اللاأزمنة وهنا يلعب المتخيل دوره السحري في جعل ذلك متحققا بإجرائية الفعل السردي الذي يستثمر التلاعب باللغة ويوظف ممكنات المخيلة.
لكن لماذا تلجأ المرأة الروائية إلى الرواية المستقبلية ؟ وكيف يمكنها تجسيد هذا النوع من التمثل للمتخيل المستقبلي ؟ وما الذي يجعلها تنفر من التاريخ الرسمي وتتجه نحو كتابة تاريخ نسوي يوازيه لكنه مستقبلي ؟
قد تكون في مقدمة الاسباب الدافعة الى كتابة الرواية المستقبلية خيبة الامل لدى المرأة في أن يكون التاريخ الرسمي والحاضر المعيش قد تركا لها منفذا تستشرف فيه وجودها المؤنث بعد أن استأثر بهما المذكر، تقول سوكي كولجريف:” طبقا للأدبيات النسويات كان التاريخ الانساني تعبيرا عن الظفر الكاسح للذكورة مما أدى الى مسخ الانوثة وتخريبها ..فتاريخ الانسان بتفاصيله العامة قام على مبدأ الاستئثار الذكوري بكل شيء والاستحواذ عليه الامر الذي أفقده الحميمية والشراكة والترابط” ومثلما فقدت النسوية العربية ثقتها بالتاريخ كذلك فقدت ثقتها بالحاضر فلم يبق أمامها سوى المتخيل العلمي الذي فيه يتجلى المتخيل التاريخي متنبئا بمستقبل النسوية.
ولا مناص من القول إن إعادة كتابة التاريخ ستفضي إلى قلب الصورة النمطية لما كان قد حدث بأخرى لا نمطية لما يحتمل أنه قد حدث. وهذا يعني أن كتابة تاريخ نسوي هي عبارة عن صناعة تاريخ جديد يعتمد رؤية علمية لما سوف يحدث، وبهذا يتم احياء التاريخ بتاريخ مواز فيه المرأة صورة مستشرفة وليست صورة مستحضرة او مستودعة.
ومنطقية هذا الفعل ترجع الى ان التاريخ بمفهومه ما بعد الحداثي هو كلياني لا يمكن فصل اجزائه عن بعضها، ولقد ذهب ميشال مسلان إلى أن الميراث التاريخي هو كل لا جزئيات كأساس لوطنية وكيان لشعب ما وتربية للبشرية لانه منتج من خبرات محددة واصيلة.
واذا اردنا ان نضع صورة افتراضية لمستقبل النسوية العربية فان ذلك سيصطدم بعوارض كأداء، أولها ضغظ النسق المعلن الذي فيه المرأة صورة مادية تعود في مرجعياتها الى رؤية البدوي لناقته التي توطدت جذورها في المخيال العربي الشعري ورسخت اواصرها في الذاكرة الجمعية العربية ايضا ولهذا ظلت الصورة المستدامة في النظر للمراة هي الصورة المادية المستلة في الاغلب من اوصاف حيوانية وفي احيان اقل من اوصاف الطبيعة وظواهرها لذلك شبهوا المرأة بالناقة واطلقوا على فعل التماس مع المراة اسماء تنطلق من ركوب البعير واعتلاء الخيل، وكأن النظرة الى الجسد هي جزء من كل أو هي شطر من مجموع جاعلين هذه المظاهر هي الأصل والمرأة هي الفرع. ومن هنا يمكننا أن نتصور حجم التحدي الذي يستحيل معه الانفلات من ضغط هذا النسق للبحث عن نسق مضمر هو بمثابة نسق قادم يستشرف اولا ثم يشتغل عليه عيانا لا غيابا اخرا. وليس أمام التاريخ النسوي إلا أن ينظر للمرأة على أساس التفافي بحيث يلتف مهضوم الحقوق على من هو هاضم لحقوقه فيصبح مركزيا مثله ومن ثم لا يغدو مدماك هذا المهضوم التحريم ولا اكسيره الخجل ولا سماته النقصان والدونية. وبهذه النسقية الالتفافية ستمارس المرأة التارخة وستسهم في صنع تاريخها النسوي المستقبلي الذي ينماز باكتمال الاهلية الكتابية والاشهارية النسقية، مع مغادرة منطقة التعسف التي مورست ضدها بنسقية اضمارية، ظلت كامنة في أعماق الوعي الباطن الجمعي للمرأة الكاتبة.
ولا يخفى الاثر الكبير الذي ستحققه ممارسة الروائيات للكتابة السردية المستقبلية، ولعلهن سيتخطين الرجال في قدرتهم على كتابة رواية مستقبلية تتنبأ بالقادم، وسيضعن الاستراتيجيات الثقافية التي تؤهلهن لممارسة دورهن الطليعي في الحياة.