عبد الغفار العطوي
يمكن القول إن تاريخ التعذيب هو تاريخ الجسد، فقد قام جون روب وأوليفر ج ت هاريس، محررا كتاب (تاريخ الجسد) الضخم بطرح مشروعهما عام 2007 وهو عبارة عن برنامج بحثي مشترك، قدم للإجابة عن السؤال الآتي: لماذا وكيف تغيرت المفاهيم الجسدية والممارسات عبر التاريخ؟ وبقدر ما هو سؤال بسيط، هو سؤال ماكر، لأننا لو تعمقنا في تضاعيف الكتاب نجد جهلنا الفظيع بالجسد وتاريخه المخيف، لارتباط الجسد بالمعتقدات أولاً، التي تكسبه صفة خاصة كونه المظهر البارز في الإنسان، وباعتبار أن الأجساد لها تاريخ، والإنسان يواجه بذلك أجساداً مختلفة عبر رحلته في الزمان، لذا فتاريخ الأجساد تاريخ آخر، لأنه يستمد سياقاته من عوالم تمثل الحياة في الحيز المكاني، وعليه فمشكلة الجسد في أنه يشكل عبئاً في ذلك الحيز المكاني، ومعنى هذا أنه يتطلب منا إيجاد أفكار لصنع عوالم له، لغرض تفكيكها، مثل حرق الجثث في العصر البرونزي في أوربا، حتى إذا ما تبين أن فكرة التخلص من الجسد في حالة الاستغناء عنه لا تعني دفعه لعالم العدم (دفن الجسد)، لأن دفنه يقتضي الإشارة إلى وثيقة دفن كدليل على انتقال الجسد لعالم ثان، وإن أولى الإنسان عناية فائقة لتلك المراسيم التي تؤكد على إبعاد الجسد عن مظاهر الفناء المنظور، فإن تلك هي الخطوة الأولى في طريق السير إلى إلحاق تاريخ التعذيب بالجسد بتاريخ الجسد بعد الفناء، والتاريخ القديم للجسد، فتح آفاقاً لثقافة الألم، فقد كتبت (إلين سكاري) كتابها الضخم أيضاً حول (جسد متألم)، قدم أسباب الألم التي خلق من أجلها الجسد، كي يضاهي صنع العالم وتفكيكه، ولولا ذاك الألم المباشر ما كانت الحاجة للجسد، ليكون مصدرا للتعذيب بأنواعه؛ الطقوسي وفي الحرب وفي المعاقبة، فقد أقر في كتاب (تاريخ الجسد)، أن البداية للتعامل مع الجسد كألم تنطوي على خطيئة وموعظة رسخت بالعلاقة بين الجسد والله، تجسدت في أعمق صورها في رحلة الحج الشاقة، عملية إرضاء الرب في الديانة المسيحية، أو قسوة الله في التوراة، الديانتين اللتين تأثرتا بتاريخ التعذيب بشكل منفر، بينما كان الشرق الوثني يعرض الجسد لشتى أصناف التعذيب من دون قصدية لمجرد استخراج الألم. ربما الألم الذي أبرزه الجسد عند تعرضه لقوى التطهير كان مصدره الله الذي دل الإنسان نحو طريقة الاستفادة من الجسد في صنع الألم. في مقدمة كتاب ألين سكاري الرائع (مقدمة المؤلفة) التي تتناول الألم البشري بوصفه جسدا متألماً، بعكس ما كنا نتوقعه من أن يكون الجسد هو المصدر الأساس لصوت الألم، تبين سكاري أن الموضوع هو عبارة عن ثلاثة موضوعات مختلفة؛ الأول ( وهو الذي يهمنا ونجده بعد القرن التاسع عشر قد أصبح ركناً من أركان علم الاجتماع ، ومن مباحث فلسفة ميشال فوكو الشهيرة في المعرفة والسلطة، بخصوص ولادة السجن في العصر الكلاسيكي الغربي)، وهو صعوبة التعبير عن الألم الجسدي، وهذا الموضوع الأول تعطيه سكاري أهمية بسبب اندماج الموضوعين الآخرين برأيها فيه، فهنا تذهب سكاري إلى التعقيد السياسي في استكناه الألم من الجسد المتألم، لأن الغاية هي استخلاص طبيعة أو ماهية التعبير المادي واللفظي معاً، هي فهم الخلق البشري في تحويل الألم إلى خلق، بعكس ما يود بيانه ميشال فوكو من ذكر التعذيب في (المراقبة والمعاقبة)، وإن كانت وجهة نظر فوكو تتطابق مع وجهة نظر سكاري، لكن الطريقة في الكشف عن اختلافهما في فلسفة التعذيب، عند سكاري، بنية التعذيب تتم عبر المخايلة بالسلطة، إذا كان الألم الواقعي حدث نتيجة تعرض فكرة الألم لحالة من حالات التفكيك، مع الاحتفاظ بمصدر التعذيب الجسدي، بينما التعذيب عند فوكو هو إجراء كان وقوعه على إثر عقوبة تفرضها مؤسسة السلطة في إدانة أو تجريم، والفرق بين منظوري سكاري وفوكو، أن سكاري تركز على ماهية الألم، في حين يؤكد فوكو على ماهية السلطة، والألم على ما يبدو في فلسفة سكاري كذلك هو جسدي، غير أنه يأتي في بنية، وما يساعد على تحويل ألم مطلق إلى مخايلة بسلطة مطلقة هو عرض ( إظهار) وسيط فاعل بطريقة وسواسية واعية بنفسها، بينما تعبر سارة ميلز في كتابها (ميشيل فوكو): ما زال ميشيل فوكو (1826 - 1984) واحداً من أهم مفكري النظرية النقدية، وتهتم نظرياته بمفاهيم السلطة والمعرفة والخطاب، وميلز بذلك تتجه ناحية (الجسد والهوية الجنسية)، تلك الناحية من الهوية، التي عرف بها مشروع فوكو في تحليل خطاب السلطة من خلال ولادة السجن، وبروز التعذيب كمخايلة ضد المعرفة التي تنتجها السلطة، أي أن الجسد في فلسفة فوكو يعتمد العلاقة المتبادلة بين المعرفة و السلطة. تقول ميلز: كتب فوكو عن تأثير القوى المؤسسية والخطابية في الجسد، خاصة في كتاب ( تاريخ الهوية الجنسية ( 1978 - 1986)، وهو يرى أنه ينبغي أن نرى الجسد كمحور لعدد من الضغوط الخطابية، الجسد هو الموقع الذي تؤدي عليه الخطابات، وعليه أيضاً يتم تحديها، بيد أن مسار سكاري يختلف تماماً في نقدها للنظام السياسي بصورة علمنته، أي أن يتم التفكيك مع صنع للعالم عبر الجسد المتألم، وفق ثنائية الألم والاستجواب، حيث يتكون التعذيب من فعل مادي أولي، هو إيقاع الألم، وفعل لفظي أولي، هو الاستجواب، ويندر الفعل الأول دون الثاني، كما يصدق على الفترة الراهنة. هنا تلتزم سكاري بحدود فلسفة فوكو في كتابه (المراقبة والمعاقبة) الذي قيض للجسد التعذيب الشديد المدمر تحت نظر السلطة، في فترة العصر الكلاسيكي، فهل يستحق الحكم على ( داميان ) الذي أوقع في الثاني من آذار سنة 1757 كل هذه القسوة؟ وفي حيثيات الحكم أنكر عليه أنه لم يجدف. في (المراقبة والمعاقبة) حول ميشال فوكو صورة التعذيب إلى إجراء يجرم به سقطات السلطة، مع توفر الدفوعات والقرائن التي تؤكد في النظر على عدم استعمال القوة والقسوة تجاه المدان الذي عذب وقطعت أوصال جسده ومزقت ثم أحرق، بقول فوكو (وأرادوا معرفة السبب الذي حمل كلباً على النوم في اليوم الثاني في الحقل الذي كانت فيه المحرقة )، ومشروع فوكو هذا في نقد السلطة لم يكتف فقط بهذا النقد الشديد للسلطة، إنما أدان المعرفة التي وقفت إلى جانبها .