محمد الموجي في النجف

ثقافة 2023/09/20
...

 كريم راهي

كنت قد كتبت في مقالات سابقة، نشرتها في الصحافة العراقيّة، عما يخصّ التاريخ اللحني العراقي والتأثير المتبادل بينه وما بين هو قريب من روحيته، مما يخصُّ الأغاني أو الأناشيد الدينيّة بشتى مسمياتها؛ مدائح نبوية كانت أم مراثي، أو «تنزيلات» بالمسمى القديم لتركة الموسيقار الراحل عثمان الموصلي، والتي تحول الكثير منها إلى أغان وبستات بعد ارتخاء قبضة العثمانيين الأصوليَّة عقب الثورة الدستورية التركيّة (تركيا الفتاة). وهو موضوع يحتاج إلى تفصيل واسع. وإن ما يدفعني للتوغل في هذا الحقل الشائك هو مسؤوليتي التاريخيّة كمهتمّ وشاهد على الكثير من التغييرات التي طرأت على ما عاصرته من تاريخ الغناء العراقي وما يرتبط به، فضلا عن ولعي الشخصيّ بمحاولة تدوين كل ما أعتقد أنه يهمّ الباحثين في هذا الصدد، كما أنقله بكل أمانة.
ما سأتناوله في هذه المقالة التي حاولتُ أن أختصرها ما بوسعي، هو استكمال لما نشرتُه سابقًا حول تأثر المراثي المنبريّة العاشورائيّة -أو الحسينيّة، سمّها ما شئت- بما كان سائدًا من ألحان غنائيّة، عراقيّة أو عربيّة، كما عايشتُها في منتصف الستينيات ولغاية منْع كل أثر لها في نهاية السبعينيات من القرن الفائت. ذلك ما أفادني به المخضرمون ممن شهدوا عهد أساتذة الملاحم الرثائيَّة، رواديد وخطباء أو شعراء منبر، منهم من لا يزال تواصلي معه مستمرًّا في البحث والتقصّي عن هذه المعلومة أو تلك، مما يستحق تدوينه، فضلا عن استفادتي -أكاديميًّا- من الجيل اللاحق الذي يتطلّع لمعرفة ما هو غير مدوّن عن الحقبة إيّاها، فإضافة لما طُمس من ذلك الإرث -تعسّفًا- فقد عزف الكثيرون من مجايلي تلك الحقبة عن توثيقها، كسلًا ربما أو درءًا لردود الأفعال التي صار كيل التهم كيفما اتفق، لهذا السبب أو ذاك، غاية في السهولة أزاءها.
في مصر، عام 1954، وبعد قيام جمهوريّة الضباط الأحرار بأمد ليس طويلًا، ظهرت في الإذاعة المصريَّة طقطوقة صُنّفت حينها على أنّها «من أغاني الظهيرة» الخفيفة كما يدعوها الكاتب جمال الغيطاني في يوميّاته، وكانت ثمرة أولى للتعاون بين الراحلين الملحن محمد الموجي، والشاعر سمير محبوب، لأغنية ستغنّيها في ما بعد المطربة ليلى مراد تحت عنوان (أكتبلك جوابات واستنّى ترد عليه).
ولقد أفادني في جلسة خاصة، الشاعر النجفي المقيم في السويد، الصديق عباس سميسم أن تأثيرات هذه الأغنية قد امتدّت بلحنها المؤثر فوصلت أسماع شعراء ورواديد النجف المتربّصين آنذاك لكل لحن رائج، فقرأ على منوال اللحن الشيخ الرادود (وطن) النجفي - وهو الملا حسين عبد مچّي العكراوي وكنيته أبو ماجد (1937 - 2003) كمستهل أو «ردة» في مرثيته الگعديّة (ثاير رافع الراس حي روحك الثوريّة) لقصيدة كتبها له الشاعر الراحل عبد الحسين أبو شبع (1919 - 1980).
وقد ذكر لي سميسم «أنّ كاظم البحراني (أبو جودت) قد اقترح على عبد الحسين أبو شبع أن يستغل الألحان الشائعة من الإذاعة لكتابة الردّات واللطميات على غرارها، فتحوّل لحن أغنية (أكتب لك جوابات استنّه تردّ عليه) لليلى مراد إلى ردّة (ثاير رافع الراس حي روحك الثوريّة) التي قرأها الشيخ وطن عام 1970 في جامع السقاية يوم العباس، وقد أعاد قراءتها أواخر أيّامه». وهذا ما مررنا عليه في مقال سابق لكننا سنتوغل في تفصيله أكثر بعد أن أجرينا كمّاً من التحرّيات والاستقصاءات.
وبرأيي أن التأثر بالأغنية كان قد تخطى اللحن وتعدّاه إلى الوزن الشعريّ وامتدَّ حتى جارى قافية القصيدة «تردّ عليّه» فأورد «روحك الثوريّة» على منوالها، كما يُلاحظ أن باقي أبيات القصيدة - سوى المستهل الذي هو الردّة أو المذهب- لم تأتِ على الوزن إيّاه، بل على الوزن الشعري المعروف لدى شعراء العامّية بوزن (الشيعتي)، وهو من بحر الرمل الخليلي ومثاله العروضي الذي أخذ التسمية منه: «شيعتي إمّا شربتم.. عذب ماءٍ فاذكروني».
ولما كان الموضوع الذي نبّهني إليه سميسم ممّا يثير شهيتي للنبش والتقصّي، فقد وجدت بعد بحث دؤوب أن الشيخ وطن قد استمرأ هذا اللحن بعد أن استحسنه «الجمهور»، فقرأ أيضاً على نسجه قصيدة (أهل الحرب هاليوم خلهه تشاهد علومه) لأبي شبع أيضًا، وبطريقة النظم نفسها. ثم أعاد الكرّة في گعديّة -وهي غير اللطمية- حملت عنوان: (ما ينساهه جسام هالروح الرُبه عليهه) للشاعر ذاته. ومما قرأ أيضاً (سجّل هاي الأفعال من مرهفه وميدانه).
ولحسن الحظ فإنَّ كل ما ذكرناه من أمثلة متاح على الشبكة العنكبوتيّة ومبثوث في المواقع التي تختصّ بجمع التراث الشيعي العراقي، ويمكن بعدّة نقرات من لوحة المفاتيح التحقق منه في صندوق البحث في موقع (اليوتيوب)، وحتى ساعة كتابة هذه المقالة.
ولربما يكون قد فاتنا الكثير مما يتصل بموضوع استعارة اللحن إيّاه، ما سُجّل أو ما لم يسجّل من مراثٍ، ولربّما لغير الشيخ وطن، فما لم يُرفع على النت من هذه التركة يتجاوز عدده ما رُفع منها بأضعاف. كما يجدر القول إنه لم يكن في وسعنا تحديد تسلسل زمني للمحاولات الأربع المذكورة -إن لم يكن هنالك المزيد- لكن الملاحظ عندي هو أن وزن قصيدة سمير محبوب الشعري بامتداداته، رغم انتسابه لبحر الرجز، لم يكن مألوفاً في الشعر الشعبي العراقي، «فعلن فعلن مفعول.. فعلن فعلن مفعولن».
غير أن الشاعر (جابر الكاظمي) يورد في ديوانه الضخم (الدموع الناطقة) نموذجاً يردّه إلى وزن (الفجري) وميزانه: مستفعلن فعلان مستفعلن مفعولن، ويدرج بيتين شعريين مثالًا له وهما:
«لو هل صفر نگضيه بين الدمع والحسره
ثاني شهـر والنـاس شهر الحـزن تعتبـره».
لكننا نميل إلى القول إنّه من استعارات أبي شبع -الذي عرف عنه ولعه بالتجديد الشعري- من الأوزان الشعريّة غير السائدة عامّيًّا، أو ربما كان إعادة إحياء لوزن ضامر تأثرًا أو محاكاة للوزن الذي كتب به سمير محبوب قصيدته إيّاها، وهذا ما يدعونا للتساؤل عن احتمالية نظم شعراء آخرين على الوزن إيّاه، وهو ما لم نقع له على أثر بيّن للآن، سوى متفرقات لا ترقى لمستوى الدليل. منها على سبيل المثال ما قرأه الشيخ وطن في التسعينيات -أيام منع الشعائر- في دار الشيخ هادي شلاگة في شارع الرسول بالنجف:
«إنته الرايه لهالدين… إنته الخالد يحسين… إنته السور اليحمينه».
أو رثائيته المشهورة:
«من تروح بهالراية.. چم روح تروح وياك»،
أو غير ذلك مما هو غير معتدّ به من أوزان الشعر الشعبي التي درج على قراءتها رواديد اليوم.
إن لهذا اللحن قصة يرويها محمد الموجي في لقاء معه بداية التسعينيات أشارت إليه الصحفيّة (ثناء الكراس) في أكثر من مقال لها في جريدة (فيتو) المصريّة، يصف الموجي فيه صوت ليلى مراد على أنه صوت رائق كالمياه الصافية.. وأنّه قطرات من الألماس أو البرلنت، وأنّها جوهرة ثمينة، ويأخذ على نفسه في اللقاء الصحفي أنّه سيّئ الحظ لأنّه لم يتعامل معها كثيرًا، مضيفًا أن أول أغنية بينهما كانت هي (أكتب لك جوابات)، «لكنها اعتزلت مبكرًا»، يردف بحسرة، «وكان يمكنها أن تستمر سنوات أخرى كثيرة».
ويضيف محمد الموجي أنّه قدم لها لحنًا وحيدًا هو «أكتب لك جوابات»، ويحكي قصة هذا اللحن الذي كتبه شاعر الأغاني سمير محبوب عام 1954 فيقول: «عندما أعجب محمد عبد الوهاب بصوت عبد الحليم حافظ طلب حضوره إلى مكتبه، وكنتُ [والكلام للموجي] معه وحاول عبد الوهاب اختبار مدى معرفتي بعبد الحليم وسأله عني فقال إنّه ملحن جديد اسمه محمد الموجي. فقال عبد الوهاب لقد سمعتُ له أشياء أعجبتني وعاوز أعمل لها أسطوانات نأخذ منها مثلا (صافيني مرة) و (بتقوللي بكرة) ونسجلهم على أسطوانات، ثم سألني عندك حاجة لليلى مراد لأنك لم تتعاون معها إلى الآن؟ فقلت عندي لحن ولا أعرف إذا كان ينفعها أم لا؟ فقال سمعني.. وكانت ليلى مراد تجلس معنا، وعندما أسمعته اللحن الوحيد عندي.. قال إنه يناسبها جداً بدل ما هي قاعدة فاضية. وتم تسجيل اللحن في يومين وكانت هذه أول مرة في حياتي أسجل فيها أسطوانة غنائية وكانت بالصدفة ليتم بعدها تسجيل أسطوانتين لعبد الحليم حافظ».
ويروي الصحفي المصري طارق الشناوي، في مقال كتبه في (روز اليوسف) عام 1991 أن محمد الموجي حكى له عن لقائه الأول بعبد الوهاب.. وذلك بعد أن استمع عبد الوهاب إلى أول ألحان الموجي (صافيني مرة)، فطلب من الموجي ان يسمعه بعض ألحانه. فعزف أمامه على العود أغنية (اكتب لك جوابات واستنّى تردّ عليه).  فرشح له عبد الوهاب ليلى مراد لتغني هذا اللحن. وكان أن تمَّ في ما بعد تسجيل أغنيتي الموجي المذكورتين لصالح شركة (كايروفون) التي يمتلكها محمد عبد الوهاب نفسه، وكان الاستماع لتلكم الأغاني غير متاح للبثّ من الإذاعة كما كان مكتوبًا على اسطوانات كايروفون. وهذا ما يدفعنا للزعم أن الأغنية قد وصلتنا متأخرة لغاية تأثر أبي شبع بلحنها والكتابة على منواله بعد سنوات من شيوع بثّها في الراديو.
ولم يكن في اختيار عبد الوهاب هذا اللحن لصوت ليلى مراد من ريادة تُحسب في هذا المجال، فقد سبق لعبد الوهاب أن لحن لها -وعلى المقام نفسه- من كلمات للشاعر (حسين السيد) أغنية (الحب جميل للّي عايش فيه) في فيلم (غزل البنات) الذي أُنتج عام 1949.
وكان أن نقلت لنا الدكتورة رتيبة الحفني في كتابها (محمد عبد الوهاب... حياته وفنه) الذي نشر عام 1999 رأي عبد الوهاب بالموجي قائلًا «تشدّني أعماله القديمة للاستماع إليها أكثر من مرة».
فلا غرابة إذنْ أن تُلقي الأغنية موضع البحث بظلالها على نفوس سامعيها من العراقيين فيروحون إلى محاكاتها، فلقد كانت ذات وقع خاص في نفوس المعاصرين لتلك الحقبة وما تلاها، حتى أنّ مرثيّة شعريّة لليلى مراد كتبها الشاعر عبد الكريم گاصد (1946 -) جاء فيها: «أصحب ليلى وهي تغني أكتب لك جوابات»، ولمن أراد الاستزادة فلينظر التفاصيل في مقالته (الرحلة الثانية بعد الألف) المنشورة في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 25 آب 2006- وهذا دلالة على أثرها الفنّي الخالد. وقد دخلت أغنية الموجي هذه في المأثور المصري الذي توجب أن تُعيد إحياءه -على عادتها- فتغنّيه، فرقة الأوبرا المصرية، وبحلّة عصريّة، تجده في تسجيل متاح حاليًا على منصة اليوتيوب.
وإذ نعود الى الشقّ اللحني في المرثيّة، فقد حسم الموسيقي الحلّي الشاب (حسين مسلم) بعد نقاش هاتفي مستفيض شابهُ بعض التردّد، أمر المقام الموسيقي الذي جاءت عليه الطقطوقة على أنّه مقام (الأوشار) المنتمي لأسرة (الهُزام)، لكنّني بذائقتي الموسيقيّة الشخصية -وهي سمعيّة فقط- كنت أشمُّ فيها رائحة مقام (المستعار)، وهو «مقام نادر في الموسيقى العربيّة كمقام مستقل، لكنّه غالبًا ما يأتي كمجرد جنس مستعار ضمن سير مقام الهُزام أو مقام السيكاه»، وفقًا لموقع (عالم المقامات) الذي أرى فيه مرجعًا نغميًّا على مقدار فهمي للمقامات الغنائيَّة. وهذا ما اتفق معي به بدايةً الموسيقي (علي مظفر) في اتصال هاتفي قائلًا: «نعم أبو زيد هذا مستعار». ثمّ سرعان ما استدرك بالقول بعد دقائق حين عاود الاتصال جازمًا: «لا.. لا.. هذا أكيد أوشار!».
وعلى حدِّ فهمي القاصر أكاديميًّا، فلم أحصر ورود (المستعار) إلا في بعض المقاطع من أغان عربيّة متفرّقة، ورغم شيوع النغم عراقيًّا، إلا أنّني لم أسمع في الغناء العراقي لحنًا قريبًا له أكثر من أغنية مندثرة كنت قد التقطتها منذ أمدٍ بعيد ومطلعها: «گومي هلهلي يَم چفّ المحنّى» وإن روحها -لمن أحب الاقتراب من اللحن- قريبة من أغنية «نوبة مخمّرة ونوبة مغشّاية» لصالح الكويتي التي غنتها سليمة مراد.
هذا ولي عودة قريبة في مقال لاحق يخصّ دائرة البحث ذاتها، رغم قلّة المهتمين بها، على أنّها مسؤوليّة تاريخيّة.