رزاق عداي
تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وانهياره السريع، شكل خيبة كبرى وصدمة لملايين البشر، الذين كانوا يؤمنون بأن النظريَّة الماركسيَّة هي أحد أبرز النظريَّات الإنسانيَّة، التي عززت الحلم البشري في إمكانية تشيد مجتمع العدالة الإنسانيَّة، وكان ينظر إلى الاتحاد السوفيتي في عموم العالم كونه من يمثل التجسيد والتطبيق العملي لهذا الامل الذهبي، بكل ما تتسم به هذه النظرة من رومانسية مبطنة بدوغماتيَّة لا تتنبه إلى المعطيات الواقعيَّة الحادثة على مجمل ميادين الحياة، لهذا وبحجم الرجّة الفكريّة، الذي انتجها هذا الحدث الكبير بدأت مراجعة شاملة لمرحلة سميت بما بعد الماركسية، تبناها كبار مفكري العالم وفلاسفته بمختلف خطاباتهم ومنظوراتهم، وكان السؤال الأول الذي كان يتقدم كل الاسئلة والإجابات هو: هل فشلت الماركسية في أن تتحايث وتستجيب مع الطبيعة، وبالتالي دخلت في تناقضات داخليَّة قادت ممثلتها العملية، وهي تجربة الاتحاد السوفيتي، إلى الإنهيار والتفكك؟ ورغم أن ردود الفعل على اثر الانهيار شكل ظاهرة شاملة على عموم الفكر العالمي، ولكن بوادر النقد لتجربة التطبيق كانت قديمة، وبالأساس أن النقد هو أحد أركان الفكر الماركسي، ففكر ماركس بمجمله هو نقدٌ وقراءةٌ للنظام الرأسمالي بوسائل جدليَّة مستمرة لا تتوقف، حتى أن المفكر الماركسي الأمريكي المعاصر، (فريدريك جايمسون) عرفه ضمن التعينات الأخيرة، بأنه علم نقد الرأسمالية عبر أزماتها، في اشارة إلى أن إلى ديمومة هذا الفكر مستمدةٌ من ديمومة الرأسمالية في حد ذاتها، لذلك نجد أن التقاطعات انبثقت عند بواكير التجربة السوفيتيَّة، كانت هناك جدالاتٌ كبيرةٌ عند مفكري الماركسية في ما بينهم، الذين عايشوا تجربة الثورة ومآلاتها في سنينها الاولى، تلك التي لها علاقة كبيرة بآليات الحكم والبناء والتطبيق، ومراجعة النتائج، فمثلا كانت هناك فروقاتٌ بالرؤية ما بين لينين وتروتسكي من جهة وكاوتسكي وروزا لوكسمبيرغ، من جهة ثانية، وظلت موضوعة دكتاتوريَّة البرولتياريَّة والتطبيق النيابي والتمثيلي أو عدمه، مثار جدل حتى سنواتٍ لاحقة طويلة، وناقشها مفكرون في دائرة الفكر الماركسي في ما بينهم وآخرون من مراجع أخرى، وأهم المدارس الفكرية في القرن العشرين، كانت نظرية (فرانكفورت) النقدية، بأعضائها الذين يتواصلون مع الفلسفة الماركسيَّة، لكنهم يتقاطعون مع الماركسيَّة الرسمية السوفيتيَّة برؤية ترى بأن تطبيق الاشتراكيَّة فيها تحول إلى بيروقراطيَّة لا تتقبل النقد والانفتاح على المتغيرات، وهذا بالتالي يحرفها عن المبدأ الاول في الفكر الماركسي، وهو النقد الذي يمضي قدمًا في حيوية النظرية ويجعلها اكثر ارتباطاَ مع كل التطورات، ثم كانت هناك لاحقًا تعدد التجارب والمنظورات، التي اشتجرت على مسار تعدد التجارب الاشتراكيَّة خارج الاتحاد السوفيتي، لكن المفاهيم الماركسية واجهت أخطر التحديات الناجمة عن التطورات التقنيَّة والتكنولوجيَّة، التي زعزعت مواقع وأيديولوجيا الطبقة العاملة وأدوارها، وفرضت معطيات جديدة، وانزياحات واسعة، فمهوم القيمة الاقتصاديَّة للسلعة بات لا يتطابق مع تعريفات القرن التاسع عشر الذي ساهم ماركس فيه مساهمة كبرى عبر كتابه الشهير (رأس المال)، والذي تخطى فيه تعريفات (آدم سمث ) و(ريكاردو)، وظل مفهوم (فائض القيمة) ساري المفعول، إلى أن حلّت التقنيات التكنولوجيَّة المتقدمة، وبدأت تقلل من دور ومساحة العمل المبذول لإنتاج سلعةٍ، وهذا ما أسهم كثيرا في امتصاص ثورية الطبقة العاملة ودورها التاريخي، ثم كانت التحولات على الساحة العالمية الفكريَّة بعد الحرب العالمية الثانية، فظهرت طروحات المفكر الماركسي الفرنسي (روجيه غارودي) المناوئة والمشككة في التجربة السوفيتية، كما أن مواطنه (لويس التوسير) فجر قنبلة كبيرة عندما كتب بان ماركس، لم يذكر في كتبه مرحلة اسمها الاشتراكية، ولكنه إشارة إلى مرحلة انتقاليَّة تسمى رأسماليَّة الدولة، التي كان يمر بها الاتحاد السوفيتي والصين معًا، وفي أمريكا، كان ماركوز ينظر إلى المجتمع الاستهلاكي، وتقلّص دائرة الحضور الثوري للطبقة العاملة، وبروز طبقات وشرائح أخرى شاغلة مكانها، ولعبت الأنشطة الفكريَّة السيسيولوجيَّة في توصيف المجتمع الصناعي والتكنولوجي الحديث، في إيجاد نقاط تشابه وتقارب في هذه المجتمعات الرأسمالية منها والاشتراكية معا، وتحركهما نحو مجتمعات بمواصفات مشتركة، يعتقد المفكر الأمريكي - ومن أصولٍ صينيَّة ( فوكاياما ) في كتابه نهاية التاريخ أن الثورات العلمية الراهنة باتت أكثر تأتيراً على مسار التاريخ، وخفت حدة اليوتوبيا وتزعزت الأيدولوجيات.