د.جواد الزيدي
على الرغم من تجليات الواقع الموضوعي، وعالمنا الخارجي العراقي بالتحديد، وما يحيط بنا من قسوة مضاعفة، إلا أن الفنان صبيح كلش صانع بهجة بامتياز من خلال فضاءات لوحته التي تتواشج فيها البنى الشكليَّة والمضمونيَّة، من دون انقطاع أو هيمنة نسق على آخر، فهو يولي اهتماماً استثنائياً للشكل مع استحضار مضامين كامنةٍ في الذّات الجمعيَّة العراقيَّة، وقد تتجاوزها إلى التعبير عن الذات الإنسانية بشكل عام.
وفي ضوء هذا الاشتغال استطاع أن يكرس تجربته من خلال الأسلوب الفني، سواء على مستوى التقنيات واللون والرموز الخاصة به التي نجدها حاضرةً بوضوحٍ في جميع لوحاته أو مجمل خطابه البصري مع توظيف هذه الرمزية لصالح المضمون وخدمة للمرامي والأغراض العامة التي يذهب اليها ويجترحها. فيستدعي مجموعة ألوان من خلال المعالجة، فضلاً عن التوظيف الكولاجي والمعاجين من أجل توسيع دائرة التأثير الشكلي وإغناء الدلالة، التي توفرها تلك التقنيات خدمةً للموضوع الرئيس.
فهو منتمٍ لتراب هذا الوطن بقوة وإن غادره في بعض حقبه الزمنية، بيد أنه يعيش إرهاصات شبابه ويتبنى مطالبهم من خلال ما يستطيع أن يقدمه على صعيد لوحته المرسومة التي تصل إلى الرأي العام العالمي بسهولة، ويتجلى هذا من خلال الاحاطات التي تم تسوير لوحته بها، فهو يستحضر الواقعة أو العلامة الايقونية المتعينة في لحظة الحاجة اليها أو الاشارة إلى مكانية محددة مثل (تمثال المتنبي، صورة كلكامش، ساعة القشلة، المطعم التركي)، وغيرها من العلامات الدالة على حدثيَّة معيّنة يريد معالجتها في خطابة، فانصهار الواقعي بالرمزي قائم بشكل متواتر في لوحته، سواء أراد التعبير عن موضوعات محلية أو إنسانية معتقداً إن هذا التشاكل لا بد منه ويؤدي إلى نتائج جمالية على أساس التلقي، وهو بمثابة شروحاتٍ نظريَّةٍ وعيانية لصورة المجرد أيضاً، تلك التي تشير إلى صورة الغائب والمجهول في المقولات والأفكار وكل ما يحيط بها من مفهومات.
يبدأ من مهيمنات العلامة ليصطفي منظومةً لونيَّة، لها علاقةٌ مباشرةٌ بمضامين خطابه، فألوان (البنفسجي، والأزرق السماوي، والأوكر) هي السائدة في لوحاته بما يُغني الدلالة الرمزيَّة لعلاماته الأخرى، ويضعها موضع تساؤل في ضوء هذه الكثرة في بث هذا اللون دون غيره، ولكن عند تأمل لوحته وإخضاعها إلى تشريحٍ نقديٍّ، يمكن الوصول إلى جوهر ما يجترحه ويريده، فإنَّ توظيف البنفسجي يشير بوضوح إلى الفضاء السديمي وإشارة النصوص الدينية إلى مأساوية هذا اللون، عندما يقترن بالعذاب والألم في حياة البشريَّة وبتوظيفاتٍ من المطلق الإلهي والقدرة المجهولة، التي يشير إليها اللون الأزرق السماوي، فضلاً عن حضور كلمة (الله) بالخط الكوفي في أغلب لوحاته حين توضع في أعلى اللوحة إشارة إلى فطرة الإنسان الأولى من خلال الإشارة إلى الخط الأول، التي كتبت به النصوص الدينية . وإن (كلش) لا يحيط الذات بسوداوية دائمة وقسوة منقطعة، بل يصنع حدوداً للأمل المرتجى، بما تعبر عنه ثنائيّات مثل (الحلم والأمل، الحب والعشق، الأسود والأبيض)، بوصفها مَعبراً لشواطئ الأحزان التي تعتري الذات الإنسانية.
وعلى الرغم من انفتاح تجربته على الفضاء الإنساني في التناول والمعالجة، إلا أنه عراقي في أغلب تجلياته، بما يشي به المكان المجترح في لوحته للدلالة على الحدث والاشارة إلى زمنه أيضاً، فصور المتنبي وساعة القشلة وما يجاورهما ودراجة هوائية تحطمها إرادةٌ غاشمةٌ يشير إلى تحطيم الثقافة العراقية وحوادث مكانية معرّفة للجميع من خلال استهداف رموزها المتعينة لدى الذاكرة الجمعية. في حين يستدعي أيقونة ظلت فاعلة في الحدث العراقي الراهن لسنوات أدت إلى متغيراتٍ كبرى على صعيد الواقع المحلي مثل (المطعم التركي) وما يحيط به من موجودات تؤسس لعلاقتها الفاعلة مع الحدث نفسه، مثل الدراجة الهوائية وعجلة النقل الشعبية (التكتك) التي أضحت ايقونة الاحتجاج الجماهيري، ثم يحاول إسعاف شكله العياني بمرموزات أخرى، من أجل أن يضع الأسئلة والحلول والنظر للموضوع من باب الخلاص الأبدي، على الرغم من واقعيَّة التصوير. فيأتي بالثور الهائج بقرنيه الطويلين، مُجسداً لفعل الشر الذي يحيط الأبرياء المحتجين، وهو ينظر إلى الأمام ويتأمل القادم المجهول، وفي الجهة الأخرى أسد فاتحاً فمه ليلتهم قرص الشمس المضيء، في حين ينتشر حطام الأجساد في أسفل اللوحة إزاء تلك الفعلة، ولكن معادلة الأمل تعيد الأكف المحتجة والثائرة المرفوعة إلى الأعلى من بين الحطام لتستمر رحلة التحدي مهما كانت قساوة الظروف.
وتتكرر في خطابه عدد من المرموزات التي تحتفظ بها الذاكرة الشعبيَّة العراقيَّة (الغراب، الطلاسم، الحروف، الخربشات، الاسطرلابات، القلوب)، وهي تعبير عن متناولات اليقين الشعبي وما يشي به الخارج من تكريس هذه الرموز التي يرسمها العشّاق على الجدران العتيقة، وجذوع الأشجار لتحل ذكرى عند مضي الزمن عليها، فيحاول استعادتها من خلال لوحته المرسومة وإعادة إنتاج دلالتها المتغيرة من جديد في ضوء أثرها، الذي يشكل وجودها الجديد في اللوحة والمفارقة بين الوجودين (الواقعي، والمتخيل) وهي فكرة استعادة زمن بريء غادره الفنان ويغادره الجميع. فعالم اللوحة الجديد يحل بديلاً عن العالم المفقود في ذاكرتنا وذواتنا والعودة إلى الفطرة الأولى، وتمثلها للصدق، والنقاء الذي ضاع في أزمة العصر الراهن وانشغالاته المادية.
كما أنه يستثمر ما تشي به الاسطورة والخرافة والأبعاد الميثولوجية في بعض المتناولات بترحيلها إلى زمننا الحاضر، فيستثمر دلالة الغراب في بعده المتناقض (الأسود والأبيض) رمزاً لصراع الخير والشر أو الحق والباطل، وأحياناً يتحول إلى طائر الحمام بما تعنيه تلك الرمزية. أما أن يجلس الغراب على كرسي السلطة فله أكثر من دلالة، وهو نذير شؤوم لصاحب الكرسي، وأثره على حياة الشعوب من خلال الأثر السلبي الذي تزدحم به المفردةُ والإشارة إلى راهن الواقع العراقي بكل تجلياته.