في ذكراه الخامسة.. البصرة تستذكر الروائي إسماعيل فهد إسماعيل
البصرة: صفاء ذياب
استذكر الحزب الشيوعي العراقي في مدينة البصرة الذكرى الخامسة لرحيل الروائي (إسماعيل فهد إسماعيل)، الذي رحل في العام 2018 في مدينة الكويت بعد صراع مع المرض. وكان الاستذكار بحضور وفد من الأدباء الكويتيين جاؤوا من أجل الوفاء لأبيهم الروحي. إسماعيل الذي ولد وعاش في العراق لخمسة وعشرين عاما في منطقة السبيليات في أبو الخصيب جنوب البصرة، ومن ثمَّ انتقل في العام 1966 للعيش في الكويت مع والده، أنتج أكثر 44 كتابا، منها 34 رواية، فضلا عن أعمال مسرحية ودراسات اهتمت بالأدب الكويت.
غير أنَّ رواياته كانت تتحدث عن مراحل مهمة من حياة الشعوب العربيّة، فمع كل انتقالة سياسيّة أو اجتماعيّة في بلدٍ ما، أنتج إسماعيل رواية عن تلك المرحلة، مثل رواية (الشياح) التي كتبت عن أحداث لبنان والحرب الأهلية، ورواية (في عهدة حنظلة) التي كتبها عن فنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي، ورواية (السبيليات) التي كتبها عن الحرب العراقية الإيرانية وما حدث لأسر اضطرت للهجرة من موطنها في أبو الخصيب، حتى آخر رواية له (صندوق أسود آخر).وهو ما جعل الأدباء الكويتيين والعرب، يطلقون عليه (أب الرواية الكويتيّة)، لأنّه تمكّن من تأسيس أسلوب خاص، جعل القرّاء العرب يلتفتون له بوصفه أرضًا خصبًا للرواية في الكويت.
إسماعيل مبدعًا
وعلى الرغم من الصداقات العديدة التي كانت تربط إسماعيل فهد إسماعيل بالأدباء الكويتيين والعرب عمومًا، غير أنَّ للكاتب محمد جواد الجاسم مكانة خاصة في حياة إسماعيل، فقد كان المرافق الدائم والصديق المقرب له، حتى شرع الجاسم؛ بعد وفاة إسماعيل، بمحاولاته للحفاظ على إرث الراحل، فأنجز كتابًا بعد رحيله مباشرة عن حياته وأهميته الأدبية، فضلًا عن اتفاقاته في إحياء ذكراه بشكل دائم.
الجاسم تحدث في الاستذكار بطريقة مختلفة، فقد تحدّث عن حياته متنقلًا عن طريق منجزه الأدبي واهتمامات إسماعيل في الواقع العربي عمومًا، قائلًا:
منذ البداية، وحكايته عن (الكرة والباص) وبداياته الأولى، ثمَّ التفت فوجد (البقعة الداكنة) بعدها لاحت له الأجواء الهادئة، فـ (كانت السماء زرقاء)، غابت الظلمة وبدت (المستنقعات الضوئيّة). عاد والحيرة تمسك بتلابيبه وذكريات الرفاق والزملاء وما أصابهم ومسلسل الاعتقالات والمصير المجهول فجاء لينشر ما بجعبته ووضعه على (الحبل). ثار الأصدقاء، ودعوه إلى العودة إلى درب السلامة الذي اختطّه مع أصدقائه وعدم ركوب موجة الفلسفات آنذاك، مال وكان لوعده الذي قطعه لهم فحطَّ في (الضفاف الأخرى).
وإسماعيل المشغول بالهم الأممي، أفرد للهمِّ العربي وما جرى للقضية الفلسطينيّة والانتكاسة، فأصدر (ملف الحادثة 67) وعندما حدثت مصائب لبنان كان بين الحشد العربي وشاركهم تأملاتهم وخوفهم فكان بينهم وكتب (الشياح). التفات إسماعيل لمجتمعه الذي بدأت عليه بوادر تفاوت الطبقات وحال الوافد الذي اعتصرته الغربة، وعيشته البائسة، فتناول هذه الفئة وسكب همومها من خلال (الأقفاص واللغة المشتركة). انتدبته وزارة التربية في دولة الكويت، وأعدّت له رحلة دراسيّة كي يتقن علوم الإذاعة وتطوير وسائل التدريس، فبعثته إلى مصر، فكان فرحه لا يوصف، فسيعاود الاتصال بصاحب البصمة الثقافيّة بدربه “صلاح عبد الصبور” وصديقه القريب “عبد الرحمن الأبنودي”. تجوّل بمصر واستمع لحوارات أهلها وتجاربهم، فأتى ردّ الجميل أن سجّل ثلاثيّة (النيل يجري شمالًا)، التي استفزّت بعض كتّاب مصر، فكيف لكاتب غير مصري يكتب عنهم؟، لكنَّ هناك من كان أعقل من هذه الفئة، فأيّدت إسماعيل، لتكون الحصيلة (البدايات)، (النواطير)، و(النيل الطعم والرائحة).
الهمُّ الوجودي
من جانبه، تحدث القاص محمد خضير عن علاقة إسماعيل بالأنواع السرديَّة، لا سيّما القصة القصيرة التي لم يفرد لها مساحة كبيرة، غير أنَّ ما قدّمه كان مختلفًا.
وبيَّنَ خضير أنّه بالرغم من غزارة الإنتاج الروائي والمسرحي للراحل إسماعيل فهد إسماعيل، (ما يقرب من الـ 34 رواية)، فإنّه لم يصدر غير أربع مجموعات قصصيّة، أولاها (البقعة الداكنة) 1965، و(الأقفاص واللغة المشتركة) 1979، و(ما لا يراه نائم) 2009، وأخيراً مجموعة (الكرة والباص) التي صدرت بعد عام واحد من وفاته.
كتبت قصص (الكرة والباص) خلال العقد الستيني من القرن الماضي، وقدّمها الراحل للنشر، فامتنعت الرقابة عن إجازتها، وبقيت هذه القصص مبعثرة بين مخطوطات الكاتب، حتّى قيّض لها أن تصدر بعد مرور خمسة عقود، بمبادرة من صديقه محمد جواد الجاسم في العام 2019.
ويشير خضير لرسالة وجّهها إسماعيل لصديقه الناقد جميل الشبيبي بتاريخ 10/10/1966 أنَّه كتب 26 قصة خلال العام 1966، منها قصة (الكرة والباص) التي استثنى نشرها حتَّى هذا الحين.
ويستخلص الشبيبي ملامح الأسلوب الستيني لقصص الراحل بأنَّها تتصف بـ “التشظّي وخلخلة زمن السرد، واعتماد ردود الفعل الذاتية عبر ملفوظات تستفيد من تيار الوعي، والدوران في دهاليز الذات لمواجهة تسلّط الآخر أو تجنّب اقتحام خصوصية عالم الذات، ترسيخًا لمقولة جان بول سارتر: الجحيم هم الآخرون”.
ويضيف خضير أنَّ هذه المؤثرات الوجوديَّة تسلّلت إلى روايات إسماعيل الأولى (رباعيته العراقيّة خاصة) في مبتدأ حياته، وتبلورت بصيغ أسلوبيَّة لم تتجاوز المرتكزات الفكريّة الموصوفة آنفًا، في مراحل إنتاج رواياته كلّها. لكنَّنا سنجد هنا، في قصة (الكرة والباص) ما يمهّد لتلك المرتكزات والرؤى الوجوديّة، التي ستظهر لاحقًا بقوّة في أعماله، ولعلّ شعور “التفاهة” بالوجود أوّل ما يصادفنا في هذه القصة.
أماكن الروائي
وبحسب الناقد جميل الشبيبي، الصديق المقرّب لإسماعيل في العراق، فإنّه عاش في مكانين لفترة طويلة، فقد عاش في البصرة منذ ولادته حتَّى العام 1966، وبعدها انتقل إلى الكويت وعاش فيها حتّى وفاته. خلال وجوده في البصرة أنجز مشروعه الروائي حتَّى أصبح روائيًا معروفًا، برغم أنّه لم ينشر أيَّ شيء سوى (البقعة الداكنة)، وحينما ذهب إلى الكويت كان يحمل معه ثلاث روايات، مثل (كانت السماء زرقاء) و(المستنقعات الضوئيّة).
العالم الذي عاشه إسماعيل في البصرة عالم التشظّي، بصمته وطرائق الحكاية، وضياع الزمن، وكثير من القضايا التي كانت تستقى من المبادئ الوجوديّة في ذلك الوقت، فقد كان مغرمًا بقراءة الفلسفة والرواية للعديد من الروائيين الوجوديين مثل سارتر وكامو، وكان عاشقًا لكامو الذي أثّر عليه بشكل واضح. ولذلك جاءت رواياته، وحتَّى مجموعته القصصيّة الأولى، تحتوي على أسئلة تخصُّ الحياة ووجودها وجدواها. ففي (البقعة الداكنة) يتحدّث البطل في حوار، يقول (أين أنا.. وما الذي أبقاني في هذا المكان؟)، يبدو هذا السؤال عاديًا في القصص، لكنّه ضمن تصوّر إسماعيل، كان سؤالًا مصيريًا، كان يعدُّ وجود سؤال (من أنا) سؤال حياة، كتب في ضوئه الكثير من القصص القصيرة، وكذلك في رواياته الأولى. هذا وقد شارك الأدباء الكويتيين في هذا الاستذكار متحدثين عن علاقاتهم بإسماعيل وكيف كان أبًا روحيًّا لهم، ومنهم: هديل الحسناوي، وفهد الهندال، ومحمد سعيد، وشمايل بهبهان، وخالد النصر الله. كما تحدث الكاتب قاسم حنون عن إسماعيل وعلاقته بالقضية الفلسطينية والهم العربي الذي كان ملازمًا له.