الكرامة الإنسانيَّة في الخطاب الشعري

ثقافة 2023/09/21
...

 أشواني كومار

 ترجمة: عبود الجابري

يجد الشعر روحه في أحضان الكآبة ويتغذى على «العواطف التي يتمُّ جمعها في الهدوء»، وكان الشعر إلى الأبد لغة القلب، وكما ذكرنا ميلان كونديرا، «عندما يتحدث القلب، يجد العقل أنه من غير اللائق أن يعترض». الشعر وسيلة تعبير متحركة تستكشف أعماق كياناتنا، وتوقظنا على المشاعر المكبوتة. إنه يثير الأحاسيس إلى درجة يصبح فيها الحزن موسيقى الروح ولحظات من السعادة، وهي فترة فاصلة نادرة في قصة حياة عادية طويلة من العدم الجوهري.وكتعويض مرحب به عن الخسارة، يتنقل الشعر حول حواف الحياة الحادة من دون التقليل من قيمتها، وتكمن قوته وجاذبيته العالميّة في «ارتعاش وجذب» الكلمات التي ترضي الحواس وتوقظ الروح. إن التعبير عن الحساسيَّة الشديدة المرتكزة على الحيوية النابضة للكلمات المقافية يعزز جاذبيتها، بينما تضخم جاذبيتها الغنائية قوة رسالة العمل الجماعي، والرحمة، والعدالة والظلم، والحب والكراهية، والهوية والاختلاف، والخضوع والتأكيد، والغضب والألم، وما إلى ذلك، في سيمفونيّة من ألوان الحياة المتعددة.

يخلق الشعر موسيقاه الخاصة ويدور حول اللحظات التي يتشابك معها من الحياة، فهو يجمع «اللغة في الفن» ويحرر الشاعر ليكون «كريمًا وجريئًا»، إنّه «يملأ الهواء، ويخمش الأوراق» بينما ينسج الشاعر حقيقة عصره في صورة تجاربه الخاصة، مقدمة «ساهر لوديانفي» لشعره تقول كل شيء:

 «كلُّ ما أعطاني العالم عن طريق

التجارب والحوادث، هذا ما أعود إليه”

تتجلّى روح المؤلف في شعره - «الصوت الذي ينجو من إسكات الصوت». مستوحىً من المشاعر القهريّة ومحميٌّ في أعماق الأماكن الخاصة، الشعر، باعتباره تعبيرًا عن الذات، هو شخصي للغاية، وصدى شعبيته ناتج عن الحقائق المشتركة التي يعكسها، تلك التي عبر عنها «سيماب أكبر آبادي» في عبارته الشهيرة:

“قصّتي هي قصّة العالم

ومن يسمعها ينسبها لنفسه”

وظيفة الشاعر هي التأكد من أنَّ واقعه وواقع العالم من حوله لا يبقى خارج عالم الشعر، إذ يتسع بما يكفي لاستيعاب ألوان الحياة المتعددة في اندماج طبيعي، إنّه «فيلسوف القلب»، ومؤرّخ الماضي، ومزوّد الحاضر، وعارض المستقبل. 

تحمل رؤية الشاعر بصمة التجارب الحياتيّة وتسدُّ الفجوة بين المشاعر وواقع الحياة. ويوضح الشاعر «شكيل بدايوني» العلاقة بين الحياة والأدب على النحو التالي:

 “أنا مجرّد صدىً لقلبي 

وصديقٌ لعاطفة الحب

لذلك أشعرُ بالفخر 

 فشعري وحياتي ليسا منفصلين”

 يستجوب الأدباء في مخيلتهم الفلسفيّة الأوسع؛ مظالم العصر «في موسيقى الإنسانيَّة الحزينة». سواء في تصوير اليأس، أو نشوة ألم الحب غير المتبادل، أو اليأس، أو رومانسيّة الاحتجاج أو بطولة الشجعان، كل ذلك يسهم في تخليد الأدب، ذلك ما يجعل تاريخ أيّ أمّة مغلَّفًا بأدبها الذي يكسو عظام التاريخ بثقافة عصورها. ومن خلال توحيد الفلسفة والشعور والحيويّة، يبقى الفن حكمة العصور التي ترشدنا إلى الطريق الحيّة. لقد ذكّرنا برتولت بريشت بأنّ الفن: 

«ليس مرآة لرؤية الواقع، بل مطرقة يمكن بواسطتها تشكيله».

 المؤلفات الثمينة للسادة الذين تغلّف الحكمة والأحاسيس العميقة أعمارهم فيسعون إلى رفعة الكلمات، تحدد لنا إنسانيتنا، وتمنحنا موسيقى حياتنا والضوء الذي يُضيء طريقنا.

الأدب بجميع أجناسه يحمل نكهةً وعمقًا في التعبير عن المشاعر الإنسانيّة الشديدة، وخاصة ألم الوحدة، وألم الفراق عن الأحباب، والشعور بالرفض والعجز. على سبيل المثال، تعد قصيدة جاي شانكار براساد الشهيرة «أنسو» تعبيرًا ساحقًا عن الحزن الشخصي.

“في هذا القلب الرحيم

   لحن مضطرب يتردّد الآن

   ذلك ما سمعته في اصطخاب المراثي

   هل العذاب هديرٌ لا حدود له؟”


إنَّ شدّة الحزن، كونها تحرّريّة، تحفّز الرغبة في استعادة الحياة رغم عذابها. ولذلك فإنَّ شعر الحزن هو أيضًا شعر الأمل. إنَّ تعبير ميرزا غالب الفريد عن الحزن في الأبيات التالية هو تذكير مدروس بعدم جدوى ملذّات الجسد العابرة.

 “في ظلمة بيتي حماسٌ لليلة حزينة

يتمُّ إسكات الشمعة التي هي إشارة الفجر

تعالوا وانظروا فجرًا مصير ليلة الاحتفال 

فلا ضجيج في المجلس ولا  تلذذ بالنشوة 

ولم تبقَ إلّا شمعة أحرقتْها صحبةُ الليل

وانطفأتْ في جرح الفراق»

إنَّ تصوير «ساهر لوديانفي» البليغ للعجز هو اعتراف على مضض بالواقع القاسي للنضال من أجل الوجود وتجدد الإرادة للنضال من أجل العدالة والكرامة الإنسانيّة.

  “أنا عاجز، كما أنت،

  عاجز هو العالم كلّه

  يثقل اليأس ذهني

  وثمن المعيشة إما المشنقة

أو الشقاء”

وتعبيرٌ عن تضامنه مع العوام والتزامه بكرامتهم:

“ولكن أيّتها الأحلام الذهبيَّة للكبرياء البشري

أنا لستُ عابدًا للمجد الملكي

أيّتها (البشريَّة) يا جوهر أفكاري

أنا منك وإليك 

ولا أمنح ولائي للانتهازيين”

إنَّ خطاب «برافين شاكر» الذي يقف ضد الظلم يجب أن يثقل كاهل كلّ روح حسّاسة ويكون بمثابة مصدر إلهام لسعينا الجماعي لتحقيق العدالة:

«من يستطيع أن يبتكر خطّة لتحريري

 وأقدامي مقيدة بالأغلال؟

من يستطيع أن يفكَّ أغلالي في هذه المدينة المحاصرة؟

 بوسعك أن تأخذ رأسي

ولكن دع القاضي يُقرّر

من هو خصمي»

إنَّ عرض أسرار الحق، تعبير مجازي عن الإرادة  الحازمة لمتابعة قضيّة أكبر، مجازٌ يحتفظ بجاذبيته المحفّزة لأولئك الذين يريدون إحداث فرق:

 “ليس من عادتي أن أتوقف وأستكين في منتصف الطريق،

العودة إلى الوراء ليست من طبيعتي”

وتذكر الشاعر للمعضلة الأبديّة للحياة المحدودة والتزاماتها اللامتناهية أمر مقنع.

 “تمهلي يا حياة!

 ديونٌ كثيرة لم تُسدّد بعد

بعض الألم لم يُمحَ بعد،

 وثمة واجبات لم أنجزها بعد”

وباعتباره نتاجًا لبيئته في علاقة جدليَّة، فإنَّ مراثي الشاعر ونصائحه وتحذيراته، تحمل رسائل أعظم،  في سياق اجتماعي وسياسي أوسع، حتى عندما يتمُّ التعبير عنها بعبارات شخصية،  ومن ثمَّ فإنَّ الفيلسوف في الشاعر هو عامل التغيير التدريجي، ولأنَّ قوة التعبير تحدد مقياس الرسالة نفسها، فقد تمَّ التقاط عاطفة الصراع البشري من أجل الحرية في جواهر الأدب التي أصبحت الآن جزءًا من الفولكلور السياسي للأمة ومصدر إلهام للنضال المستمر ضد الظلم والقمع.

وفي ظلِّ حالات الاضطراب السياسي المعاصر، فإنَّ وجود مثل هذه النصوص سيُعزز من كرامة الفكر لدى الشعوب، ويرسّخ التفكير الثوري لدى الإنسان أيًّا كانت ديانته أو جنسيته أو انتماؤه، ولنا أن نستعينَ بنيرودا فيما يمكن اعتباره دستورًا خالدًا يمكن للشعوب أن تحتذي  به:

«الطغيان يقطع الرأس الذي يغني،

 لكن الصوت في قاع البئر 

يعود إلى ينابيع الأرض السريَّة 

ويخرج عبر الظلام

 إلى الأعالي»

بينما تبقى قصيدة محمد إقبال واحدة من الإيقونات التي تخلّد الكرامة الإنسانيّة شعرًا:

«لستُم للعالم ولا للسماوات

العالم لكم، 

ولستم ملكًا لهذا العالم.»


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- أشواني كومار : كاتب هندي، ينشط في مجال حقوق الإنسان، شغل منصب وزير العدل سابقًا.

- المصدر: مجلة ( The Wire) الهنديّة.