سبينوزا وحكمة الأقليَّة

ثقافة 2023/09/21
...

 كه يلان محمد

المنحى العملي في القراءات الفلسفية أصبح مطلبا ملحا ولم تعد النسخة التنظيريَّة مدخلا مناسبا للمسلك الفلسفي لذلك يستهدف هذا المسعى المعرفي الوصول إلى أوسع جمهور من المتابعين. وذلك لا يعني التسويق لوهم مفاده بأن الفلسفة تجيب عن كل الأسئلة أو هي بمثابة طوق النجاة في عباب الأزمات. من الواضح أن ما تستمد منه الفلسفة زخما متجددا في الوقت الراهن هو الخروج من منطقة الاستقطاب الآيدولوجي.

 صحيح أنَّ هذا الاتجاه الحديث يكونُ على حساب ما كان يطمحُ إليه قادة الفكر لتثوير المفاهيم وجعلها أداةً للتحول الجذري غير أنَّ حساب الواقع لم يطابق حساب ما ترشّح من الوثبات التاريخية المدمغة بالعلامات الفلسفيّة. لذا فإنَّ ما يمكن للفلسفة أن تتحرك فيه هو ملعب الاشتغالات الفرديّة. والملاحظ في هذا السياق هو العودة إلى المجال الفلسفي من بوابة التجارب الشخصية ومعنيٍ ذلك أنَّ الأولويّة ستكونُ للمشاريع الهادفة إلى ممارسة التدبّر العقلي وتطويع المعرفة لإجادة فن العيش.عليه فلاغرابة من الاهتمام بالأصوات والمدارس الفلسفيّة البارزة في هذا المعترك. لعلَّ كلًّا من سبينوزا وشوبنهاور ونيتشه من بين أكثر الأسماء حضورًا بالمشهد الفلسفي ومردُّ ذلك ليس إلا المشاركة في النظر إلى الفلسفة بوصفها نشاطًا يزيدُ المرءَ إدراكًا بالعوامل النفسيّة ودورها على نمط التفكير. أكثر من ذلك فإنَّ الفلسفة لم تتخذ شكلًا مؤسسيًّا لدى هؤلاء الأسماء قياسًا بما قدمهُ كل من هيغل وماركس. وكان سبينوزا يرى نفسه في مهلكة حقيقية وأراد البحث عن الدواء إلى أن جربَ التفرّغ للبحث الفلسفي مع أنَّه في البداية لم يكن متأكدًا من صحة قراره.مؤدى هذا الموقف أنَّ الفلسفة ليست ترفًا فكريًّا أو لعبة لغويّة بقدر ماهي برنامج لمعرفة دوافع النمو وأسباب الإحباط لدى الكائن الإنساني. وهذا الخط هو ما يحدّدُ مسلك سبينوزا الفلسفي. 

كان  سبينوزا يؤمن بأنَّ للعالم بنية رياضيّة ويلتقي في ذلك مع المنهج الديكارتي. يشيرُ الباحث الأمريكي ستيفن نادلر في كتابه المعنون بـ “ فكر أقل في الموت سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت” إلى أنَّ صاحب “رسالة في إصلاح العقل” اعتقد بأنَّ الضرورة المنيعة في الطبيعة لاتحكمُ عالم الأجسام المادية فحسب بل تطالُ مفاعيلها مجال النشاط البشري بما في ذلك مايحدث في النفس البشرية من الخطرات، والأفكار، والنوايا، والرغبات، والمشاعر إذن فالقوانين التي تنطبق على الظواهر الطبيعيّة تصلحُ لرصد ما يعتملُ داخل النفس.ويمضي أبعد من ذلك معلنًا في كتاب الإيتيقا بأنَّه سينظرُ إلى الأفعال والشهوات الإنسانية كما لو كان الأمر يتعلق بخطوط وسطوح وجوامد. لذا تتواردُ المسلّمات الرياضيّة والأمثلة الهندسيّة ضمن متابعة سبينوزا للانفعالات النفسيّة، وهذا مايثيرُ سؤالًا إذا كانت الطبعية البشرية محكومة بالقوانين المسبقة تمامًا مثل المُعادلات الرياضية فأين حرية الإرادة والاختيار وكيف يمكن للإنسان أن يتطلعَ للكمال والإزدهار؟، قد يكون من باب التذكير بالبديهيات بأنَّ هذا الموضوع ثيمة أساسية في السجالات الفلسفيّة، ولكن مايهمُّ هنا هو رفع ما يبدو التباسًا في مشروع سبينوزا فمن جهة تراه معتكفًا على دراسة مفهوم الحرية وما يرتقي بالمرء إلى مرتبة الإنسان الحر ويجزمُ القولَ من جهة أخرى بأنَّ “ليس في النفس أي إرادة مطلقة أو حرة بل يتحتمُّ على النفس أن تريدَ هذا وذاك بمقتضى سبب يُعيّنه سبب آخر “ ويستمرُّ التسلسل السببي إلى ما لانهاية. في الواقع إنَّ الإنسان الحر في منهج سبينوزا هو من يفعلُ وفقًا لإملاء العقل. ولاتصطدم حريته مع الضرورة لأنَّه يُحقّقُ استقلاليته من خلال تفهم طبيعته الخاصة ومن ثمَّ لن تكون الأشياء الخارجية مؤثرةً على تفكيره وقراراته ولايشغله سوى ما يزيده تفرّدًا أو ما يمكنه من الاستمرار في كينونته. وهذا مايسميه سبينوزا بـ “الكوناتوس” ولايصحُ أن يُفهم من ذلك بأنَّ سبينوزا يلغي الأشياء الخارجية وينقطع عنها بل يقتضي العقلُ الأخذ بما يفيدُ الكيان الوجودي. إذن فالانسحاب من العالم ليس ضمن خيارات الإنسان الحر. بل إنَّ ما يتطلع إليه حسب تفسير ستيفن نادلر لفلسفة سبينوزا هو أن يستخدم العالمَ استخدامًا صحيحًا لمنفعته.وبذلك يكون له مواصفات الإنسان الفاضل عند أرسطو الذي يميل إلى الوسطيّة بدلًا من التطرّف. ما يشغلُ سيبنوزا هو تحديد مصدر معاناة الإنسان وأرقه النفسي لذلك يفردُ مساحة من أجندته الفلسفيّة لدراسة الانفعالات والعامل الأساسي لهشاشة البينة النفسيّة هو التراوح بين النفور والسعي. ما تراهُ سببًا للقلق والتوتر تهربُ منه كما أن ما يثير الإعجاب تلاحقه ظنًّا منك بأنَّ الوصول إليه سيحققُ السعادة والشعور بالفرح. لا ينكرُ صاحبُ “الايتيقا” محدودية القدرة البشرية مؤكداً بأنَّ الأسباب الخارجية تفوقها قوةً وجلَّ ما يمكن الاعتماد عليه هو التحمّل والهدوء. هنا ما يجدرُ بالذكر أنَّ هذه المبادئ لاتختلفُ عن جوهر منهج الزن يقولُ أحدُ أتباع الزن “من السهل جدًّا الانتصار على المتمرّدين الذين يحصّنون أنفسهم بين الجبال لكن الأمر ليس كذلك مع هؤلاء المتمرّدين الذين يعيشون في أذهاننا” هذا ما يتقاطعُ مع رأي سبينوزا عن دور الأفكار في التشكيلة النفسية وحركة المشاعر والتكوين السلوكي. وبالطبع فإنَّ الانفعالات في فلسفة سبينوزا مرتبطة بالأفكار لذلك يكون الشخص حرًّا عندما تفوق فعالية أفكاره التامة على تأثير أهوائه وأفكاره غير التامة. ويعبرُ عن مركزية الانفعالات بمعادلةٍ كاشفة عن عقلية رياضية “لايمكنُ كبح انفعالٍ أو القضاء عليه إلا بانفعال مناقض أو أشدَّ منه”. توقعَ سبينوزا بأنَّ ما تصبو إليه فلسفته من الإبانة عن قيمة التخفف من الانفعالات السلبية وأهمية عدم الانجرار نحو مهاوى الأهواء الحزينة قد تبدوَ ضربًا من المثاليات ولاتجدُّ تربةً مواتية لاحتضانها إلا نادراً لأنَّ الإنسان لا تنقصه المعرفة بقدر ما يعاني من عدم فعالية ما يعرفه. لذلك لايستبعدُ أن يرى الأفضل ويستحسنه لكن يختارُ الأرذل. ويعلقُ سبينوزا على هذه المفارقة لافتًا إلى استعداد الناس للتأثر بالرأي أكثر من تأثرهم بالعقل الصحيح. لا شكَّ إنَّ الحريّة بصيغة سبينوزية من دونها تحديات خصوصًا في هذا العصر المكتظ بالمؤثرات التي تلعبُ بالمشاعر وتصادرُ إمكانيات التفكير. لكن “كلّ ما يكونُ نفيسًا يكون صعبًا بقدر ما يكون نادرًا” حتى كانط أدرك حقيقة الاختلاف بين ما تتوق إليه البشريّة نظريًا من الأفكار والقيم السامية وما تنتكسُ إليه تجاربها الواقعيّة ويعزو مؤلف “نقد العقل الخالص” هذه الحالة إلى ضعف الطبيعة البشرية. إذاً ليس الأمرُ كما يروّجُ له بأنَّ نظرة الفلاسفة تعكسُ سوء التقدير بالكائن البشري. ويمثلُ سبينوزا بأفكاره المتوازنة عقلًا مبصرًا بالثغرات النفسية في التركيبات الاجتماعية. لذلك لا ينفي دور الدين في إلهام البشر بالسلوك الأخلاقي. على الرغم من تصنيفه للأمل والخوف والشفقة ضمن قائمة الأهواء الحزينة لكنه يعترفُ بأنَّ هذه المشاعر هي ما يدفع الأغلبية للطاعة والقيام بالأعمال التي تفيدُ عدداً أكبر من الناس. 

فيما يتحركُ الإنسان الحر خارج موجبات العقاب والثواب وما يقوده فعليًا هو الفضيلة ولا يوجد ما يوازيها قيمة وفائدة في منهجه المعيشي. ومن المعلوم أنَّ الفضيلة والعقل وجهان لعملة واحدة في فلسفة سبينوزا، غنيٌّ عن القول أن ما يسبغ الحيوية للأفكار الفلسفية ليس مدى تطابقها مع الواقع أو مرونتها في مواكبة المعطيات الحياتية فحسب بل إنَّ مستند الأفكار هو حياة الفليسوف وتمثلها في شخصيته. زهد سبينوزا عن النجاح المادي والاجتماعي لاحقته تهمة الزندقة والحلولي والمرتد عن الطائفة. عرضت عليه السلطات الدينيّة مرتبًا سنويًّا مقابل تظاهره باتباع الطقوس والسكوت عن أفكاره غير أنَّ هذه الصيغة من الحياة لم تكن على مقاس شخصية مؤلف “رسالة في اللاهوت والسياسة” فهو كان يهمه أن يعيشُ حياةً توافق طبيعته وتقدمُ صورةً حيّة لنخاع فلسفته. ما يجبُ قوله بهذا الصدد أنَّ سبينوزا على غرار قلة من الفلاسفة والمتصوّفة عدَّن حكمته الشخصية من تجاربه المضنية واصطدامه بمنظومات عقائديّة مقفلة وتفكيكه لإكراهات الزيف والنفاق الاجتماعيين. قد تجدُّ في كلِّ عصر حشودًا من الأفراد تعجبهم أفكار زينون وإبيكتيتوس وباسكال وسبينوزا ونيتشه لكن من الصعب بمكان أن تروق للجموع المواقف التي نضجت على لهيبها الآراء الرائدة والأفكار غير التقليديّة.