وارد بدر السالم
(1)
يستغرقنا الفنان العراقي محمود فهمي في متوالياته البغدادية، وطقوسها الشعبية، في بصمةٍ متميزة عُرف بها هذا الفنان المجتهد، عندما يؤسس لوحته على خيالٍ ينهض على تصغير الطبيعة ، كخلفية لمخلوقاته البغداديَّة النسائيَّة التي تتضخم في مواجهة المتلقي، وتأخذ حيزاً مهماً من فضاء اللوحة. حتى يبدو المشهد الفني عنده، كما لو يبدو في حلمٍ شعبي بغدادي، أكثر صلةً بالواقع المديني منه إلى القروي؛ لا سيما في مواسمه الصيفيَّة على وجه الدقة. وهذا يمكن ملاحظته في مجمل تقنيات اللوحات التي عمل عليها، كبصمةٍ فنيَّة في واقعيتها المتخيّلة، الجانحة إلى التهويل والتفخيم البشري، على حساب عناصر الطبيعة المحيطة به. فمن الواجهة البغدادية الملازمة للوحاته، إلى فضاءات لا تغادر المدينة كثيراً، نجد الفنان منشغلاً، بتطويع الزمان إلى مكانٍ أليف عبر مخلوقاته النسائيَّة، الخارجة من ثوب الواقع إلى خيال التأسيس الجمالي. تلك المخلوقات التي تضخّمت على حساب مفردات الطبيعة التي تحيط بها كلِنية فنية، مما يجعل تأسيسها لبصري قائماً على اتجاهين هما: الواقع والخيال يسيران جنباً إلى جنب في خطين متوازيين، برمزية هي أقرب إلى الجمال الشعبي في فرادته البغدادية. وأقرب إلى رمزيته المتاحة في حركية شخصياته النسائية على وجه الحصر. لهذا نجد اجتهاد الفنان في التعبير عن هذه الحركيَّة بجمال التضخيم واستخدام مفردات الطبيعة والبيئة، فنلاحظ شفافية العادات اليومية والطقوس الأسريَّة، التي تمثلها نساؤه وفتياته الجميلات بشكلٍ جذابٍ وباهر.
(2)
في لوحات الفنان فهمي يبدو المنظور الفني مغترباً عن الواقع. وهو تغريبٌ جماليٌّ في الأحوال كلها، بقصد إزاحته عن الواقع المباشر، وكشف ما وراءه من تشكلاتٍ نفسيَّة وتاريخيَّة. اضافة إلى أنه تكريسٌ وتشخيص الطبيعة الاجتماعيَّة في انزياحاتها الرمزية، بما فيها من طقوسٍ وشعائرَ ويومياتٍ معتادة، بقصد تشكيل رؤى مغايرة للاعتيادي الاجتماعي في الطبيعة البغدادية. والتضخيم الجسدي المقصود ضمن دوران اللوحة في هذا الحيّز، هو في تمكينها بأن تكون ذات صلةٍ في تحليقٍ نسائي على السطوح والأنهار، بما يشبه الطيران الحلمي، وكسر التنميط الواقعي الدارج، وإحالته إلى الخيال الفني؛ بتحجيم الطبيعة وتصغيرها إلى الحد الأدنى من واقعها. بغرض إطلاق كائنات الجمال البغدادي وتفخيم وجودها الحسي، وإضفاء منطق المبالغة الجسدية، لتثوير الجانب الحدسي عند المتلقي، وهو يرى مخلوقات الفنان طافيَّةً في الفضاء، بوجود مفردات من الطبيعة المتداولة: الرقي، الدعسوقة، الشناشيل، النهر،الديك، السطوح. البيوت، الزوارق، النوارس، القطط، النخيل. الدراجة الهوائية، اللقلق.. هذا الجنوح إلى الخيال، يقرّب لنا صورة البحث عن الحرية غير المتاحة كما يبدو من سياق الدلالات الفنية والرمزية في معظم اللوحات.
(3)
كائنات محمود فهمي البدينَّة، والكرويَّة في كثيرٍ من الأحيان، كما لو أنها تحاول الخروج من اللوحة في طيران قد يحدث في أية لحظة، فطبيعة الفكرة ضمن إطارها وبنيتها الفنيَّة، تُقنع المشاهِد المتلقي برمزية الاشتغال في الخروج عن القار الفني، الذي ألفناه في أعمالٍ كلاسيكيَّةٍ كثيرة. وفي جاذبيَّةٍ فنيَّةٍ توائم الجاذبيَّة النفسيَّة في التحليق المستمر للمخلوقات الفنيَّة، التي تحاول الانفلات من الجاذبية الأرضية في التحليق نحو كمال الحرية وإيجادها، ومن التفسيرات التي نجدها في هذا الطيران الفني، ما هو مضمرٌ في روحية الفنان في البحث عن الحرية وجمالها الأثير، الذي قد لا يجده في الواقع البغدادي، إنما ينظر اليه في جمال التحليق المضخّم عبر الفضاء المفتوح الى ما لا نهاية. وسنرى المرأة تقتسم مجمل لوحات الفنان في تجلياتها العمريَّة المتتالية. في إضاءات متوالية لإبراز أدوارها المتعددة في الحياة الشعبية، وبالتالي تشكل عنده مركزاً نورانياً كثير الإشعاع، في جاذبية تنفلت من الأرض إلى السماء، لتدوير وجودها الأزلي في مواجهة الحياة، عبر الأسطورة المحليَّة، والطقوس المتوارثة، والعادات التي شكّلت من وجودها قاسماً جوهرياً في إضاءة الوجود الكوني الكبير.
(4)
في عموم تجربته الجمالية في الرسم، التي تميز وتفرد بها، بأنْ يجعل الإنسان خلاصةً للطبيعة، ومؤثراً في تركيباتها الكثيرة، لا يمنع هذا عن القول بأن مؤثراتٍ فنيَّةً خارجية، ألهمت تجربته وعمّقتها، وكرّست فيه روح المغايرة، حينما تدخلت تجارب فنيَّةٍ عالميَّةٍ في صناعة كائناته المحلية، أكسبته مهارةً في التعاطي الفني، وخروجاً عن المألوف الذي اعتدناه في التشكيل بشكلٍ
عام.
يمكن، بشكلٍ أو بآخر مُشابَهَة أعماله بانجازات الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو( توفي يوم الجمعة الماضي) بتضخيم الأجساد البشرية والتلوين على الدراما، التي توسّع من أبعادها الواقعية، كما تجلى راقياً في لوحاته عن (سجن أبو غريب) كفنانٍ يشترك مع الإنسانيَّة أينما تكن في مآسيها الإنسانيَّة. لكن الفنان فهمي، وهو يحاذِر من أن تكون له تجربةٌ رسميَّةٌ مشابهة، يجعل من المكان أكثر شفافيَّة ورقّةً من دون احتدام مع الواقع، بل يجعله أكثر سحراً وغرائبية، حتى في تاريخيته، عندما يستقدم رموزاً معروفة وإخضاعها إلى تجربة المعاينة الفنية. والتلويح بتاريخيَّة قصديَّة، تضمر معها أبعاداً سياسيَّة وجوديَّة في المكان البغدادي القديم، خاتون بغداد) مثالاً.