حين انتهت الحرب

ثقافة 2023/09/23
...

  طالب كاظم


يمكنك تذوق الحرب، كما يمكنك شم الحرب وتحسس نتوءاتها وحراشفها القاسية بأطراف اصابعك، كما يمكنك سحقها بين سبابتك وابهامك، إنها تشبه، إلى حدٍ كبير، رماد جثة عتيقة جففها الغبار والدخان تحت متاريس مهجورة، أو بقايا عود ثقاب يطفو، منذ امد بعيد، على سطح المياه الراكدة في مستنقع  مهمل عند حافات الخليقة.

انتهت الحرب؟!! 

أخيرًا، بعد أن صمتت المدافع المدخّرة بالعويل والزعيق، ندرك كيف يكون إيقاع معنى ذلك، الحرب انتهت. 

انتهت أخيرًا، فجأة!! لم تعد المجنزرات الثقيلة تمزق التراب الرخو، لم نعد نسمع صرير تروس الفولاذ، وزعيق الدواليب الحديدية، كما لاذت الغام فالمارا القافزة *المهملة، بأحراش القصب الكثيفة، بعضها غادرت ممرات الجنود المفخخة بالموت، وتناثرت، بلا خرائط أو بوصلات، وهي تعوم مع الامواج الراكدة التي تلاشت عند جوانب الممر الترابي الضيق، الذي امتد كأفعى متوعكة، ملطخة بالخنادق الغائرة المحصنة بالصفيح وجذوع البلوط الضخمة، كانت غيوم البعوض الكثيفة تتسلل إلى الملاجئ الضيقة، التي اختنقت بالهواء الساخن ورائحة العرق. 

 اللسان الترابي الطويل الذي شطر المستنقع المترامي إلى نصفين، المستنقعات التي لم تعتد الصمت الغريب، الذي داهمها فجأة بلا موعد، ادرك أن تفسير الامر يتطلب شيئا اكثر من الاعتياد، كيما ندرك ما معنى أن الحرب انتهت أخيرًا!!

ولكن ما الذي ينتظرنا هناك  بعد أن انتهت الحرب؟! 

لا أحد هناك يرشدنا إلى طريق العودة بعد أن تقطعت بنا سبل! 

من سيشير إلى وجهتنا القديمة التي هجرت منذ امد 

بعيد ؟!

الخوذة  المموهة بالأسمال والوحل رسبت فولاذها في ذاكرتنا، بعد أن انتهت الحرب كيف سنعتاد التجوال برؤوس حاسرة، تحت سماء متواطئة، كانت تتوعدنا بمطر الفولاذ، كيف لنا أن نتجول دونما خوف، كيف لنا أن ننسى الممرات المفخخة، بلا اسمال مموهة وخوذ فولاذية، تخدع قناصهم، الذي ينتظر بصبر لا ينفد لحظته الثمينة ليقتل أحدهم، الأسمال المموهة بالطين والملطخة ببقع الملح والعرق، تلك الأسمال العتيقة دست مجساتها في مساماتنا، حتى باتت الجلد الذي يلف شرنقته حول هياكلنا الذاوية، تحسس أصابعي،إنها متصلبة وقبضتي قاسية، حينما اتفقد سلاحي، وأنا أراوغ بتحصينات الممر الشقي طلقات القناص الذي يتربص لحظته ليخرق حياتنا برصاصته، تحت سماء نقية بلون اللازورد، متراميةٍ  كبحر بلا ضفاف، مرقطةٍ بسحبٍ بيض، تزحف ببطء صوب الغرب.

انتهت الحرب أخيرًا!

القناص غادر صومعته المموهة بالتراب والخيش، ليتناول فطوره في الملجأ المعتم، بيض مسلوق وقطعة خبز قمح مخلوط بالشوفان والذرة الصفراء وقدح شاي، وهو يتطلع بآسى إلى بندقيته، التي اسندها إلى جدار الملجأ المحصن بالأكياس المحشوة بالتراب، بندقيته تلك التي شطرت رؤوس الجنود برصاصاتها الرشيقة.

 كيف لي أن أشطب من ذاكرتي، المخابر اللاسلكي المصاب بالذهان مهند حسين، الذي يخبرني طوال الوقت، على سبيل التذكير، بأنه شخصٌ آخر ولا صلة له بما يظهره لنا مهند الجندي، فهو ابن انديرا العجوز وأن سبب مأساته الشخصية، إنه ضحية أب غاضب، كما اخبرني في أحد الايام، بانه تعثر في غرفة والده، فأطاح بالطاولة، حين حاول الاستناد إليها،  فتسبب بسكب الحبر على السجادة، ففقد الاب صوابه، وركل مهند الصغير، ما بين فخذيه، فتسببت تلك الركلة القاسية، بضرر لا يمكن معالجته لخصيتيه، مهند حسين، الجندي بلامبالاته العميقة، وهو يخترق بلامبالاة الشظايا وعويل الانفجارات وزمجرة الحديد والمداخن وتدفق اعمدة النيران والتراب والوحل 

- لم يحن موعد موتي بعد!

يرد علينا ساخرًا حينما نصرخ به نحذره من نهاية نضطر فيها إلى لملمة بقاياه المقطعة، مهند مات في نهاية الامر، مات وحيدا، في موعد آخر أعد له جيدا، ليليق بابن انديرا البكر! عزفت فيه سمفونية الموت نهايته المفجعة، اذ شطرته شظية كاتيوشا إلى نصفين، مزقت جدار البطن وغشاء البريتون، فاندلقت الأحشاء الرمادية الساخنة خارج بطنه، يمكنك رؤية البخار المتصاعد من جوفه المشرع، تطلع في عيوننا بصمت، وهو يطبق بقبضة واهنة على رسغي، كان هادئًا جدًا ووديعًا جدًا وشاحبًا جدا، حينما جمدت عيناه وهو يتطلع في سماء تتباعد.

 يا للحرب!

يا للحرب التي انتهت أخيرًا، يا للسلام المخادع الذي أهدر كثيرا وهو في طريق عودته إلى المتاريس المذعورة، تأخر أكثر مما يجب، وفات عليه موعد إنقاذ مهند حسين الذي ينام في قبره ببطنٍ بقرت بشظية كاتيوشا منذ ثلاثة عقود ونصف.

*ألغام مضادة للأشخاص. صغيرة الحجم وخفيفة الوزن بجسم بلاستيكي وحشوة شديدة الانفجار، بترت أقدام العديد من الجنود الذين تعثروا بها.