قلق الاشتغال النصّي

ثقافة 2023/09/23
...

 جاسم خلف الياس

يعد القلق كما هو متعارف عليه من الانفعالات الإنسانيَّة الحادة، ناتجة عن أحاسيس ومشاعر شديدة التأثير، وعالية الوعي، عندما نكون أمام تقييماتنا  لحدث أو موقف معين، وهو من أكثر أنواع الاضطرابات النفسية شيوعاً. ولأن ما نريده من هذه التحديدات هو كشف العلاقة بين التهديد الفائق لقدراتنا، وتفعيل الإدراك المعرفي في تقييم أيِّ موقفٍ من المواقف التي نتعرض لها، سنقوم بتوظيف هذه المصطلحات (الانفعالات، الاضطرابات، الأحاسيس) في هذه المقاربة التي حددنا مهمتها في كشف العلاقة الترابطيَّة بين القلق والاشتغال النصي في الأنواع الأدبية.

إذ تزداد حدّة هذه العلاقة وتقلّ حسب فرادة حساسيتها وفاعلية سرّانيّتها، اعتماداً على ثلاثة مسوّغات، تتضافر من أجل استنفار كل الطاقات الخبيئة، والقدرات الكامنة في خلق الحالة الكتابية المراد تجسيدها بحسب النوع الأدبي الذي تنتمي إليه. إذ يتمظهر المسوّغ الأوّل في مستوى  التجاوز والمغادرة والتمرد على السائد والمألوف، وهذا يتطلب شجاعة ومغامرة واجتراح أساليب مغايرة في أنماط التعبير النصيّ، فضلا عن اختيار الثيمات التي تعبّر بشكل يتوافق مع تلك الأساليب والأنماط. 

ويتعمق المسوّغ الثاني في خلق التعالق بين الجمالي والمعرفي ابتغاء سبر غور العالم السحيق للأشياء، وهنا (يتحوّل الاهتمام من التركيز على الخصائص التي تثير فينا الجمالي إلى المفاهيم المعرفية المرتبطة بإدراك هذا المثير ومعالجته معرفياً)، ويتدفق المسوّغ الثالث من نبع الحيرة التي تؤهله للارتياب من متطلبات الكتابة في لحظة الشروع والافتتان بجوهرها، فـ(كل كتابة قلقة هي صوت مبشر بالارتياب والشك)، و(لا وجود لكاتب قلق دون أثر متمرد على التشابه) حسب تعبير الناقد محمد رمصيص. وإذا كانت هذه المسوّغات تشكّل التوق المولع بالخارق، فماذا يفعل الكاتب تجاه الدوافع المكبوتة التي تعطي للتوتر والقلق فضاء شاسعاً؟ وهل التعالق بين القلق والاشتغال النصيّ يتعدد بتعدد الرؤى والتصوّرات واختلاف الأقوال والاتجاهات؟ وإذا كان (الفن يكمل ما تعجز الطبيعة عن إتمامه) حسب أرسطو، و(ما يبقى، إنما يؤسسه الشعراء) حسب هولدرلن، فأين تكمن صيرورة قلق الاشتغال النصي بين هذين الافتراضين إن لم نقل

الإثباتين؟ 

في رأيي المتواضع لكي نحيط بالإجابة عن هذه الأسئلة المفترضة في هذا الفضاء، علينا أن نبدأ بالكاتب وضرورة تحويل كل ما يتعلق بحياته إلى (وقود للكتابة)، ويضع  نصب عينيه التفاني في استدراج ذاته إلى مغامرةٍ كتابيَّةٍ يتجلّى فيها الإعصار التأملي الهائج، فتحرّك الفكر وتستفز الذهن، وتفتح الباب أمام التوقعات والافتراضات والممكنات والاحتمالات؛ ليضع أمامه حشداً من التساؤلات التي تتعلق بالكتابة والتجربة والخبرة وهي تقوده إلى منطقة التشكيك في كتاباته، مع الابتعاد التام عن الغلوّ في هذه الضغوطات، كي لا تتحول إلى غليان مدمّر. ومثلما بدأنا بالكاتب، ننتهي به أيضا، فهو المحرّك الأساس لكلِّ اشتغالٍ نصيّ، وما موته سوى خدعةٍ أراد منها البنويون منهجة النقد وفق العلائق الترابطية بين الاشتراطات الفنية لكل منجز أدبي أو فني. ومن أهم ما يتعلّق بالكاتب في الكتابة هو الإشكال الجدلي بين (الذات) و (الموضوع) ، ولأن الاشتغال الأدبي بشكلٍ عام (ينهض في توتّر على تخوم أنماط الحقائق المقننة والأنساق المعيارية المسيّرة لشؤون الأفراد والمجتمع) فإن الاقتراب من هذا الاشتغال الحائز على التمرد، والرافض للمسلّم به، والمقوّض للتقليدي، سيحتاج إلى (وقفات تنقيحية تمكّنه من الضرورات الشاذة للقراءة الضالة) حسب مفهوم هارولد بلوم.    

بعد هذا المدخل المتواضع نتساءل بحساسية لا تخلو من الدهشة، هل في داخل هذه الاشتغالات النصية قارئٍ وهمي، مثالي، يمكن أن يكون نسخة عن الذات، ذاك الذي يُسميه ميشيل دي موزان (الجمهور الداخلي)؟ ويأتي الجواب اعتماداً على تسمية موزان وافتراض التساؤل، نعم، نستشف وجود ناصٍ مثالي، يعيش في ذهن كل ناص واقعي، يشطب ويحذف ويقرر ويتوه ويحترق وينطفئ، ويمثل هذا القارئ هوية يتعالق فيها التنظير مع الاجراء، وهو في الوقت ذاته ليس مفتاحاً سحريّاً لفتح أبواب اللذة، ولكنه بالتأكيد المفتاح الذي لا يقبل الصدأ وهو يراوح بين الثوابت والمتغيرات، بين الانطباع واليقين من جهة، والاستفزاز والشك من جهة أخرى، فيعاني هذا الكاتب من التوتر والانفعالات، والاضطرابات وهي تقوده في كثير من المواقف إلى تقصّي الاشتغالات التي تسهم في تفاقم  القلق الحاضن لفكرة تجنب الاجترار والتكرار لما قيل سابقاً، وتخليصها من (قلق التأثير) أيضاً، وهنا يتحقق الحلم الإبداعي عند التفرد والتميّز، بوصف الحلم خلاصة جمالية لمراوغة الخيبة التي ترافق المألوف، لا خدعة تراهن على الإيهام بوصف هذا المكتوب تجاوزاً، من أجل إقناع القارئ باختلاف الكتابة المصرّح بها بعيداً عن مطابقتها للكتابات 

السابقة. 

إن قلق الاشتغال النصّي ممارسة خلّاقة،  تتأسس على خلفية الانهمام بخلخلة المألوف، وإعادة ترتيب النصوص وفق معطيات مغايرة ومغادرة ، تبقي الكاتب في دائرة الحيرة، باحثاً باستمرار عما يجعله مختلفاً، منتجاً بغبطة شاسعة، قادراً على تحويل التوتر والقلق إلى طاقة إيجابية في التأليف، مستنفراً كل تركيزه على ما سيكتب في قابل الأيام، لا على اجترار ما مُؤَلّف 

سابقاً. 

وإذا كان المرء يمرّ بحالات القلق التي تصيبه جرّاء اتخاذ قرارات ما في حياته المعيشة مرورا عاديّاً، فيسعى إلى أن ينغمس في حالة من الحالات التي تخفف من التوتر، على سبيل المثال لا الحصر (التدفق) أو (اليقظة) أو (الوعي التام)، فإن الكاتب، والكاتب المختلف تحديداً، يحتاج إلى الانغماس في الحالات الثلاث بقوةٍ تشدّه أكثر إليها؛ للتخلّص من آثام التفكير التي يبقيه في الاتجاه الخاطئ حينما يشرع في الكتابة، فيعمل على تحويل مشاعر القلق والتوترات التي تساوره، إلى شعور بالاهتمام الذي يجذب القرّاء، ويدفعهم لمتابعة تجربته 

الكتابية.

نخلص في نهاية المقاربة أن القلق الذي نعنيه هنا هو قلق الاختلاف والمغايرة اللذان يضعان (الحيرة) أمام الكاتب، لينطلق في فضائهما عارياً من الاطمئنان والانغلاق. وهذا الإحساس هو مجرد معطى ذاتي، ويستطيع القارئ الحاذق كشف ذلك في أشد الحالات تأزماً حتّى وإن لم يصرّح به الكاتب في سيرة ذاتية، أو مذكرات أو يوميات، أو ما شاكل ذلك من كتابات أدبية، تزدوج فيها (أنا) الواقعية، بـ(أنا) التخيّلية، وهذا الازدواج القائم على التصادم والتلاقي في الآن نفسه، هو الذي يخلق المتاهة التي تجرّ الكاتب عنوة إلى دهاليزها وأنفاقها التي لا ينجو منها إلا الذكي الحاذق.