عن الزمن الجميل

ثقافة 2023/09/23
...

 حسن السلمان 


يُشْكِل الكثير على تسمية الماضي الذي عشناه بـ "الزمن الجميل" وحنيننا إليه كوننا عشناه تحت أنظمةٍ بوليسيَّة جائرة وأغلبنا فقراء، حفاة الأقدام، صفر الوجوه من أثر الفاقة والحرمان، لا تستر أجسادنا سوى الثياب المستعملة والأسمال وأقمشة "البازة" كماركة مسجلة باسم المعدمين، ولا تأوينا سوى أكواخٍ وصرائف مهلهلة، ومنازل آيلة الى السقوط، سقوفها من خشبٍ وحصران لا تتعدى الغرفتين في أفضل 

الأحوال.

لكن الحنين الجارف لذلك الزمن الجميل لاعلاقة له بكل ذلك، إذ إنه، أي ذلك الزمن، يستمد جماله من بساطة الحياة وعلاقاتها الإنسانيَّة الحميمة، وأعمارنا الفتية الممتلئة حيويةً وأحلاماً لا حدود لها تتعدى حدود الفاقة والاستبداد السياسي مصحوبة بنزعة من التمرد والخروج على عصا الطاعة الاجتماعية والأنساق الثقافيَّة التي تتحكم بمسارات توجهاتنا الفكرية حيث تتغذى تلك الأحلام ونوبات التمرد العنيفة على ما كنا نلتهمه من كتبٍ إبداعية، سواء كانت شعرية أم سردية  تحرض على التمرد ونشدان الحرية وتحقيق الذات ضمن إطار وجودي على نحوٍ خاص. فمن منا نحن أبناء ذلك "الزمن الجميل" الشغوفين بالأدب لم يقرأ رواية كولن ولسون "ضياع في سوهو" وشخصياتها الإشكالية التي تحلم بالحرية والبحث عن ذواتها كل حسب طريقتها. تلك الشخصيات المتمردة الثائرة، التي أثرت بنا إلى حد تمثل أفكارها وطروحاتها؟ ومن منا لم يقرأ رائعة اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكي الروائية "زوربا اليوناني " وشخصيتها المحورية زوربا اليوناني، تلك الشخصية البوهيمية، الأمية، النقية السريرة، التي تستمد وجهة نظرها عن الوجود ومعناه من التجارب الحياتية الغنية حيث الحرية والإقبال على التهام الحياة واستغلال كل لحظة من لحظاتها في إشباع ما تتوق إليه بعيداً عن اتكيت الحياة العصرية والوجاهة والتحفظ والتصنع وارتداء الأقنعة البشرية المزيفة ويتمايل على رقصتها الشهيرة؟ 

من منا لم يقرأ بعضاً من مؤلفات عراب الوجوديَّة جان بول سارتر كـ رواية "الغثيان"، ومسرحية "الذباب" وغيرها من أعماله الفلسفية من أجل تحقيق "الإرادة الحرة" لحجز مقعد يليق بالإنسان كقيمة عليا في سلم الوجود؟ من منا لم يقرأ "أوراق العشب " لـ والت ويتمان الذي داس على التقاليد والنماذج الشعريَّة الجاهزة ووجه الصفعات إلى وجه الذوق العام المحافظ؟ من منا لم يقتنِ كتاب "المتمرد" لألبير كامو ووجهة نظره الخاصة عن الحرية؟

ومن منا لم يسافر على متن " المركب السكران" لصبي الشعر الجميل آرثور رامبو، الذي كتب بفترةٍ قياسيَّةٍ لا تتجاوز الثلاثة أعوام من عمره القصير قصائد تجاوزت السائد والمألوف وأصبحت أيقوناتٍ شعريَّةً يشار إليها بالبنان؟ 

ومن منا لم ينبهر ويقتفي خطى السياب بتحطيمه عمود الشعر وكتابة الشعر الحر، ومن ثم اقتفاء أثر صعلوك الشعر العراقي حسين مردان، وكتاب قصيدة النثر تحت مسمى الشعر المركز؟ من منا لم يتعاطف مع الحركات الثوريَّة ذات الطابع اليساري ويسعى لارتداء "بيرية" جيفارا، ويسارع لمشاهدة الأفلام الطليعيَّة، والتي تتمحور حول القدرة الخلاقة للإنسان نحو تحقيق حريته وأهدافه المنشودة وإن كانت مستحيلة التحقق؟ 

نعم. نحن نجمّل ذلك "الزمن القبيح" أنظمة حكم وحياة بائسة بحنيننا إلى أحلامنا وشغفنا بكل ما هو عابر للحدود، واستعادة عنفواننا وحماسنا ومشاعرنا الملتهبة في زمن الاستهلاك، وفقدان الأصالة والتكنولوجيا التي حولتنا الى كائنات افتراضية، رقمية، باردة الأحاسيس، بليدة المشاعر.