غواية الأنثروبولوجيا .. من مالينوفسكي إلى شتراوس

ثقافة 2023/09/23
...

 د. يحيى حسين زامل


عندما تجذب الأنثروبولوجيا كل من يطّلع عليها عندها ستكون غواية، وهذه الغواية لم تكن ضَلالا. أو تملُّقا، ومداهنة. بل هي غواية العلم وهيبة المعرفة، إنها أشبه بأسطورة "الميدوزا"، التي تعرضت للاعتداء من قبل إله البحر "بوسيدون"، في معبد أثينا التي انتقمت آلهتها من "ميدوزا" على ذنبٍ لم تقترفه، فحملتها أخطاء الإله "بوسيدون" وحولتها إلى امرأة قبيحة، وعلى الرغم من قدم هذه الأسطورة ، ولكنها لا تزال تستخدم رمزاً على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن أولئك الذين عُوقبوا لذنوبٍ لم يرتكبوها وكانوا ضحايا للاعتداء.

   الأنثروبولوجيون المعاصرون تطالهم اللعنة نفسها التي لحقت "الميدوزا"، وتطاردهم التهمة القديمة نفسها، بأنهم خدمٌ للاستعمار، وأن هدفهم تفكيك المجتمعات إلى قوميات وأثنيات ليسهّل على المستعمر السيطرة عليهم، بينما هم اليوم يعانون بعد أن تحول هذا العلم إلى أكاديميًّ بحت من التهميش والإهمال والجهل في علمهم وروادهم وأقسامهم العلمية الإنسانيَّة. 

مالينوفسكي... الغواية الأولى 

   لقد وقع "مالينوفسكي" كأول أنثروبولوجي تحت غواية الأنثروبولوجيا، فقد حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من "جامعة ياغيلونيا" في عام 1908, وكان اهتمامه الأولي بالرياضيات والعلوم الفيزيائيَّة. وعلى الرغم من أنه كان يعاني من مشكلاتٍ صحيَّة في طفولته، ولكنه كان بارزاً في دراسته. وأثناء مدة نقاهته قرر أن يصبح متخصصاً في الأنثروبولوجيا بعد أن أطلع على كتاب "الغصن الذهبي" لـ "جيمس فريزر". إذ بدأت الغواية من هذا الكتاب الساحر والعظيم؛ لأنثروبولوجي بارز هو "فريزر".

   ودرس "مالينوفسكي" الإثنولوجيا في جامعة لايبزيج، ودرس عند "كارل بوخر"   الاقتصادي المعروف، وكذلك عند عالم النفس "فيلهلم فونت". وانتقل بعد ذلك في العام1910 بالذات، إلى "إنجلترا"، إذ درس في كلية لندن للاقتصاد في "جامعة لندن"، وتتلمذ على يد "ويستيرمارك". ورحل مالينوفسكي رحلة علمية أنثروبولوجية في العام 1914 ، إلى "بابوا" غينيا الجديدة تقوده غوايته، فقام بإجراء بعض الدراسات الميدانية في مجتمع جزر "تروبرياند". وما زالت نتائج تلك الدراسات التي توّصل إليها ذات أثرٍ كبيرٍ على الدراسات الأنثروبولوجيَّة حتى هذا اليوم.

بواس... فتنة شعب الإنويت

    والرائد الثاني الذي وقع ضحية غواية الأنثروبولوجيا هو "فرانز بواس" (1858-1942)، (ألماني المولد أميركي الجنسية)، الذي أُطلق عليه لقب "أبو الأنثروبولوجيا الأمريكيَّة"، وارتبطت أعماله بحركة التاريخ  الثقافي الأنثروبولوجي. وكانت بداية "بواس" مع الفيزياء عام 1881 ، ومشاركته لاحقًا في بعثة جغرافية إلى شمال كندا، حيث فتنته (أو... أغوته) ثقافة "شعب الإنويت" في "جزيرة بافن" ولغتهم، فتحول إلى الأنثروبولوجيا وأجرى عدِّة أعمالٍ ميدانيَّة حول اللغات واللهجات المحليَّة والثقافات المختلفة في إقليم شمال غرب المحيط الهادئ.

     وكان "بواس" يبحث عن فضاءٍ أرحب في الأنثروبولوجيا فلم يجد غير الولايات المتحدة الأميركيَّة فهاجر اليها في عام 1887 ، وعمل في بدايته مشرفًا على متحف في مؤسسة سميثسونيان، وتقدم في العلم وأصبح  في عام 1899 بروفيسور أنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا، وبقي هناك يعمل لبقية مسيرته المهنية. فأثر في العديد من الطلبة الذين لمعوا في هذا العلم من أمثال (كروبر، سابير، وروث بنديكت، ومارغريت ميد،... وغيرهم كثير).  

شتراوس .. غواية الأنثروبولوجيا البنيوية

    بلا منازع يعد "كلود ليفي شتراوس" من أهم البنيويين المعاصرين، بل إن البنيويَّة ترتبط به ارتباطًا مباشرًا، فأطُلق عليه عدِّة ألقاب منها: (عميد البنائيين، أو شيخ البنيويين، أو البنيوي الأول، أو رائد البنيوية المعاصرة)، ويرجع ذلك إلى استعماله المنهج البنيوي في الأنثروبولوجيا ودراسته المختلفة. 

   وجاءت غواية الأنثروبولوجيا والمنهج البنيوي من نشأة  "شتراوس" وتربيته وإعداده العلمي بشكل كبير، وكذلك إلى تنوع اهتماماته عن الطبيعة وعلم الجيولوجيا، والموسيقى والفن لا سيّما بالأساطير، وكذلك في الفلسفة والقانون، ولكنه ترك كل هذه العلوم وأتجه نحو الأنثروبولوجي، فبرع فيها ايما براعة، وحاز بها أعلى المراتب وجعل منها أيقونةً علميَّة فرنسيَّة بامتياز، ومدرسة علمية أخذت دورها في تطور هذا العلم تدرجت في مصاف المدارس العالميَّة.

   وبدأت الغواية لـ "شتراوس" في المدة من 1927 – 1932 ، حين كان طالبًا في جامعة باريس للحصول شهادة الفلسفة والقانون، ليطلع فيها على أعلام المدرسة الفرنسية الاجتماعية. وبعد مدة عمل قليلة في مدرسة "الليسيه".  شد "شتراوس" الرحال إلى البرازيل عام 1934، كرحلة أنثروبولوجية تتضمن دراسة الشعوب هناك، ثم عُرض عليه منصب أستاذ لعلم الاجتماع في جامعة ساوباولو، وعندها جاءته الفرصة في هذا المنصب، إذ رأى فيه فرصة للقيام برحلات أنثروبولوجيَّة ميدانيَّة في أدغال البرازيل والخروج بنتائج مبهرة . وفي عام 1939 حصل على منحة من الحكومة الفرنسية للقيام ببعثة دراسية لدراسة القبائل البرازيلية البدائية على أوسع نطاق.

   وبعد دراسته عن البرازيل وشعوبها ذاع صيته في الجامعات العالمية فهاجر إلى أميركا، وفي العام عام 1943 تولى منصبًا جديدًا في الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي، وقد مهدت له هذه الإقامة فرصة نادرة  لكتابة أطروحته في الدكتوراه "البنى الأوليَّة للقرابة". ونتيجة لعلاقته مع "رومان جاكوبسون"، أهتم شتراوس بعلم اللغة البنيوي، فخرج بمقالٍ بعنوان "التحليل البنيوي في علم اللغة والأنثروبولوجيا" نشره عام 1945 في مجلة حلقة نيويورك، والذي حقق شهرةً واسعةً ونال الاهتمام الكبير من الباحثين والأكاديميين إلى يومنا هذا ليصبح من أهم رواد 

الأنثروبولوجيا.

   وبهذه "الغواية" فقد اكتسبت الأنثروبولوجيا رواد مهمين، أسهموا بشكل كبير في تطور الأنثروبولوجيا لما يشكلون من إضافة نوعيَّة وعلميَّة وأكاديميَّة لهذا العلم، الذي بدأ يأخذ دوره جنبًا إلى جنب العلوم والمعارف الأخرى 

في العالم.