محطات التجريب في المسرح

ثقافة 2023/09/24
...

  فاروق صبري


“الحداثة رؤيا جديدة وهي جوهريَّاً تساؤل واحتجاج،  تساؤل حول الممكن واحتجاجٌ على السائد”
«أدونيس»
لعل مفهوم- فعل التجريب يدفعني للتساؤل: هل المغامرة هي خطوة أولى تأخذك إلى التجريب أم أن التجريب يفتح شهيَّة السير في طريق المغامرة في فضاء المسرح؟ إلى أية مدى تكمن أهمية وحيوية البحث والاكتشاف والخلق في سياق تأسيس الفعل المغامر أم أن هذا الأخير يولد عبر وهج التخييل!!؟؟.
يعني التجريب في جوهره تجاوز السائد، ولكن في المسرح هل يحتمل أن يكون هذا التجاوز كاملا في جميع أبعاده الفنيّة والتقنيّة والجماليّة والفكرية؟.
فالمعروف في متن أي عرض مسرحي يتوفر ما هو مضيء أو ما يملك احتمالات التطوير والتجديد بل الانطلاق منه -المضيء- صوب أفق آخر تجريبي مختلف في مقترحاته البصرية والرؤيوية.
يؤكد سفر المسرح وعبر عصوره المختلفة، المتعددة، المتنوعة أن المسرحيين المبدعين يعيشون حالة توالد وتصادم وإنّهم كمثل نهرٍ لم ولن يتوقف مجراه، ومياهه لا تسير فيه مرتين، لذلك كان وظل التجريب الشاغل الجوهري لهواجس المبدع المسرحي الذي لا يكرر سيره في مجرى فضاء العرض، كل مرّة يجدد هذا السير وفق تنامي طاقته المعرفية المتفاعلة أيضاً مع ذائقة المتلقي وجغرافيته الثقافية، ولا مجال في هذه الورقة لفتح ذاكرة السفر المسرحي وما تحتويها من محطات ما زالت مؤثرة ومثيرة للتساؤلات حول شغف التجديد والتجريب ولكن يمكن الإشارة إلى أن ستنسلافسكي يعد حضور الممثل المتميّز هو نوع من التجريب فيما يذهب مايرهولد وراينهارت وأنطونين أرتو وبيتر بروك إلى البحث في عوالم الإخراج، أي خلق مشهديَّات بصريَّة وتفاعلاتها مع المتلقي، والعلاقة مع المتلقي كانت الهاجس الكبير لتجديد برتولت بريخت عبر نظريته المهمة في مسرح ملحمي يخلق حالات الاغتراب والتساؤلات عند المشاهد أكثر مما يعطي فرصة الاسترخاء والنشوة والتعاطف والانفعال كما هي في عروض مسرحيَّة أفرزتها تيارات، اجتهادات، مدارس تعبيريَّة وواقعيَّة وغيرها، وإذا عمل بريشت مقارنة (بينه وبين ستانيسلافسكي) قائلاً (إن ستانيسلافسكي حينما يقوم بالإخراج ينطلق من الممثل أما أنا فأنطلق من الكاتب المسرحي.... مأخوذ من كتاب المسرح الملحمي والشرق للكاتب الدكتور سعيد الناجي)، وتجا كل هذا تساءلت: وأنا أحاول التجريب في المسرح هل يمكنني أن أنطلق من الممثل والنص ومن البيئة التي أعيش فيها ومن ذاكرتها ومن ذاكرتي الشخصية!!!؟
ربما يبدأ هاجس التجريب المسرحي من رغبة الفنان في الخروج من (معطف) الأب أو ما هو سائد، من لحظة الاعتراض على واقع مسرحي ما، فالاعتراض انشغال من الانشغالات المهمة للعمل الإبداعي والذي يتجلّى مسرحيَّاً في وقفة صارمة وفاحصة تجاه المنجزات المسرحيّة ودراستها وفرز (إيجابياتها) و(سلبياتها) والتفكير العملي من وضع بدائل في الرؤية الكتابيَّة والبصريَّة، وهذا الأمر يحتاج إلى البحث المؤدي إلى الكشف الذي (ينبع من الحدث نفسه، فهو يأتي بأثر فعّال «من كتاب نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن للكاتب الدكتور رشاد رشدي» مثل هذا الكشف المعرفي الذي يقود المبدع إلى «الخلق لا إلى التعبير، والفرق كبير بين الاثنين، فالخلق هو إيجاد عالم موضوعي يسير حسب قوانينه ومن داخله أما التعبير فهو وسيلة للإفصاح عن آرائه ومعتقداته - من نفس المصدر السابق»، وتأسيساً على هذا الأمر فإنَّ الخلق المسرحي لا بدَّ أن يملك معطيات فكريّة مغايرة وجمالية مستحدثة بعيداً عن الشكلانية والاستنساخ البصري الفارغ إلا من (مشهديات) الأدخنة الملوّنة والأضواء المزركشة القوس قزحيّة ومن الإطارات المتنوعة المساحات والكراسي المتطايرة وأجسام الممثلين الملتوية والمنبطحة والمتشكلة في الفراغ والدالة على اللامعنى والفراغ، وفي هذا السياق يقول المفكر الفرنسي جيل دو لوز في كتابه الصورة - الزمن (تكمن الصعوبة في معرفة ما الذي يميّز صورة بصرية وصوتية بحيث لا تكون كليشيه)، هذه المقولة المهمة التي تدفع المسرحي من تجاوز الحلول البصريَّة الكليشيهات، المتكررة، المستهلكة والانتقال عبر قوة التخييل إلى حيث طقوس بصريَّة غير مألوفة من الدهشة والمتعة والتأويل والمعرفة والتساؤلات، إنّها مقولة ستظل حاضرة عندي في المستقبل مثلما رافقتني وأنا في حالات إنجاز عروضي المسرحية التي حاولت خلالها أن لا أكون منفذاً ميكانيكياً في العملية الإخراجية لنصوص الكتّاب ولا ملتزماً بطقوسها الدرامية وكيفية بناء شخصياتها وأحداثها من دون تساؤلات ولا منشغلاً بتحويل منطوقها الحروفي إلى مشهديات مرئية فوتغرافية، وضمن هذا المنطق يقول الباحث الدكتور كريم عبود في كتابه -تصورات في الثقافة المسرحية الصورية- يقول (إنَّ الفرضيّة الإخراجيّة تبدأ بالهدم ولا تتقيّد بقانون النص الدرامي وهي تسعى إلى بناء وخلق فضاءات من السحر المبتكر مؤلف من مشهديّة صوريّة يختزل ويكشف فيها الجانب اللساني في النص فتتحول المفردة اللغويّة إلى مفردة غير لغوية صورة)، وهذا المعول الإخراجي الجميل يهدم صمت الكتابة ويخلق لغته البصريّة الحيّة، أي يستنطق النص بصريّاً ويبعث الحياة فيه.
يقول منظر ومؤسس «المسرح الفقير» البولندي ييجي ماريان غروتوفسكي: (لا يبقى لدينا حينها إلا الممثل والمتفرّج ويصبح المسرح ما يحصل بينهما، أما الباقي فهو مجرد إضافات ...)، لعل هذا الروح الغروتوفسكية قد غمرتني وأنا أخطط، أفكر، أعمل كيف أقدم عرض مسرحيتي (أمراء الجحيم) في كراج البيت الذي أسكنه بعد أن عرفت من بعض الأصدقاء أن كلفة إيجار القاعة للعرض غالية من الصعب دفعها الآن، بدأ جرس التجريب بالرنين حيث كنت في غربتي البعيدة، نيوزلندا وهل يمنعني غياب تقنيّات خشبة المسرح من خوض التجريب ولو بإمكانيات بسيطة وفقيرة والعمل بقناعة وإيمان بأن ليس لديّ سوى (الممثل والمتفرّج) وأذهب إلى العرض مثلما ذهب غروتوفسكي إلى عروضه المسرحية، لذلك قررت عرض هذه المسرحية -التي كتب نصها الشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي- في هذا المكان الذي غابت عنه أية تقنيّات حتى البسيطة منها ورغم ذلك تأسست خلفيته برسومات حيوات نصب الحرية وقصائد للسيّاب ومظفر النوّاب والشاعرة السورية فرات أسبر وهذه الخلفية صنعها الفنان وسام إبراهيم، نعم المكان كان فقيراً من دون ديكورات ولا إنارة متطورة ولا مكياج، فقط استخدمت بعض الإكسسوارات وأقنعة رتبها الفنان صلاح الكردي وأيضاً لم تكن أمكنة مريحة للمتلقي إذ لا كراسي لجلوس الجمهور الذي شاهدوا العرض وهم واقفين في درافواي البيت، هذه التجربة نبهتني بأن (وطن) الإقامة لا يفرش أمامي البساط الأخضر ولا أستطيع تحقيق إلا النسب القليلة جداً من مقترحاتي البصرية واندفاعاتي التخييلية، لكنها أيضاً -أي التجربة هذه- أن أتواصل مع إصراري لتقديمها في صالة مهيأة تقنياً وفنيّاً وكنت مقتنعاً بأن الصعوبات أن أواجهها وأدرسها وأحاول إزاحتها كي لا تعرقلني وأنا سائر صوب هدفي لذلك تساءلت (كيف إذاً يصل الشيء إلى هدفه، إذا لم يتم تشغيله والتمرن عليه في كل خطوة على الطريق..... من كتب «المظهر لايخدع للمؤلف أدولف موشج) هذا الأمر الذي شجّعني برسم وتنفيذ سينوغرافية العرض بصورة مختلفة جداً وجديدة جداً عن تجربة كراج ثيتر، إذ قللت من طغيان سلطة الكلام واشتغلت على خلق مشهديات بصرية أدواتها سبع أقنعة معلقة يمثل كل قناع منها شخصية ما تسرد نفسها بطريقة مختلفة تجسّد هذا الاختلاف تقنية جسد وصوت وأداء الممثل المتفاعل مع لعبة الإنارة بتدرّجاتها اللونيّة والضوئيّة التي فرزت دوراً جمالياً ورؤيوياً في شحن جغرافية فضاء العرض بطاقات التواصل والتفاعل مع
المتلقي.